1 ـ عندما انطلقت الثورة من تونس كان أوّل ما نطقت به الحشود في شارع الثورة : الشعب يريد إسقاط النظام، الشعب تحرير فلسطين تنبيها إلى أنّ الاحتلال والاستبداد وجهان لحقيقة واحدة.
وهي بذلك تحدّد السببين الأساسيين اللذين حالا دون اجتماع المجال العربي وبناء كيانه السياسي مثلما كان شأن المجالات المجاورة (المجال التركي، والمجال الإيراني) والتي كانت مكوّنا من تجربة الأمة التاريخيّة وفاعلا فيها. فأمّة العرب ليست خارج السنن ومجاري العادات التي توجّه الأمم في انتظامها واجتماعها.
كسر بنية استبداد النظام العربي الثلاثيّة (دولة/مجتمع/زعيم فوق القانون) مقدّمة لتأسيس الحريّة وبناء الديمقراطيّة والاختيار الشعبي الحر(دولة/مجتمع). وتحرير الإنسان شرط لتحرير الأوطان. فكانت إضافة الربيع: تلازم المقاومة الشريفة والمواطنة الكريمة. ووجهه الآخر تلازم تجريم التطبيع (تحرير فلسطين) وتجريم الاستبداد (إسقاط النظام).
2 ـ وتجريم الاستبداد، كما نورده، ليس ردّا على تجريم التطبيع وهو موضوع مزايدة دائمة في مشهدنا السياسي بين المستثمرين في الحقّ الفلسطيني. وقد لا حظنا هذه الأيّام تردّد من عرفوا بحماسهم المفرط لتقنينه بالتصويت عليه في مجلس نواب الشعب، وحماس من عرفوا بتردّدهم المشبوه.
تجريم التطبيع عندنا مشروط بتجريم الاستبداد، وهما عنوانان لا ينفصلان في التصوّر السياسي التأسيسي المواطني كوجهي العلامة. وإنّ تنزيل هذا التلازم في رؤية وحركة نضاليّة وأشكال تعبير مواطني تمثّله هو الحالة الفكريّة والسياسيّة الكفيلة بإنهاء الاستثمار في هذا حق الفلسطينيين التاريخي (وهو حقّ للأمّة) بداية بسلطة أوسلو وانتهاءً بمعسكر الممانعة من بقايا نظام الاستبداد العربي وحلفائه الإقليميين مرورًا باليد العاملة الرخيصة في مشروع صفقة القرن من متصهينة العرب نخبا وساسةً. فمن يمثّل شروطا جديدة للاستبداد ويعمل على استعادته ويستهدف مسار بناء الديمقراطيّة (الشعبويّة والفاشيّة وروافدهما الوظيفيّة) لا مصداقيّة لدعوته إلى تجريم التطبيع.
4 ـ وعلى ضوء هذا التلازم أمكن لنا قبل الثورة تصنيف المقاومة إلى عضويّة ووظيفيّة** (مقالنا في المقاومة أفريل 2010). وهو تحديد دقيق للهويّة السياسيّة في علاقة بتأسيس الحريّة. ومنوال تفسيري لم يتنكّر لنا بعد الثورة، بل لعلّ الوقائع والأهوال التي عشناها في المجال العربي عشريّة الثورة، مازالت تشهد لمصداقيّته التفسيريّة.
وتتحدّد وظيفيّة المقاومة بثلاثة أمور: شروط قيامها، وموقفها من نظام الاستبداد العربي، وعلاقتها باستراتيجيّة التحرير وشروطها الوطنيّة. ونعتها بالوظيفيّة لا يلغي البتّة (ولا يمكنه أن يلغي) دورها في محاربة العدو التاريخي ومبادرتها إلى ذلك في فراغ نظام الاستبداد العربي العميل وانطفاء روح المقاومة وثقافتها عند النخبة. ولقد أمكن لهذا المقاومة أن تحرّر جنوب لبنان بالسلاح سنة 2000 وكسر شوكة جيش الاحتلال الصهيوني في تمّوز 2006. دفعت في ذلك شهداء ومهج وفلذات أكباد. وتواصل اليوم إسنادها (مختلف في درجاته) للمقاومة العضويّة في فلسطين.
5 ـ كلّ هذا لا يمكن أن يخفي وظيفيّتها وشرطُها الأساسي المتمثّل في تمفصلها مع الاستراتيجيا الإيرانيّة ومرجعيّتها العقديّة. وهو أمر معلن لا يخفيه حزب الله بل يباهي به.
وهي استراتيجيا بقدرما تتقاطع مع هدف الثورة في استهداف الاحتلال (بل سبقت الثورة زمنيّا إليه) انفصلت عنه في مواجهة نظام الاستبداد العربي في أحد أهمّ سياقاتها (سورية). وهو أمر بالغ التعقيد رغم وضوح نتيجته السياسيّة: دمار سورية وقتل أهلها واحتلالها من قبل ستّ دول أوّله احتلال خارجي (الكيان الصهيوني في الجولان منذ 67) وثانيه احتلال داخلي (النظام الأسدي العائلي منذ انقلاب 70).
وما يعنينا من ارتباط حزب الله بالاستراتيجيا الإيرانيّة في المنطقة هو ما جعل موقفه من المجال العربي وثورته ومستقبله يدور مع مصالح هذه الاستراتيجيا. وهو موقف متوتّر بين المحاصرة والمناصرة على ضوء المصالح المذكورة. ولو كان لهذه المقاومة مساحة مناورة تمكّنها من علاقة إيجابيّة بمرجعيّة الديمقراطيّة وتأسيس الحريّة لاتّسم باستقرار مبدئي، ولمثّل إضافة إلى "المرجع" نفسه، في وضع استراتيجي متقلّب ولمكنّته من مراجعة مهمّة أمام خسائر تظهر تباعا وأهمّها الخسارة الأخلاقيّة فإيران جزء من الأمة وكان لها فيها دور ريادي. وهذه في جوهرها خسارة سياسيّة استراتيجيّة فالبندقيّة التي كانت موجّهة إلى العدوّ في بنت جبيل ومارون الراس وجبشيت صارت موجّهة إلى الشقيق في يبرود والقصير وحلب. ولن يخفّف من هذه الخسارة دعاوى محاربة الإرهاب المتوحّش ونظام بشّار من بين روافده المعلومة منذ احتلال العراق وتهشيم عاصمة الرشيد.
6 - الوظيفية والعضوية لن تلغيا لقاءً بينهُما على مواجهة الاحتلال. ثمّ إنّ الصفتين ليستا جوهرا بقدرما هما عرض. فقد تصعد الوظيفية باتجاه العضوية وقد تنحدر العضوية لتصبح وظيفية وفق الشروط والملابسات.
وتمثّل علاقتهما بالمجال العربي عاملا حاسما في مستقبل كلّ منهما. وهو مجال يتّجه لبناء كيانه السياسي بمعناه العام حين يتخطّى العائقين الأساسيين (الاحتلال، الاستبداد)، وإنّ وعي المجالين الجارين بموضوعية وحدة المجال العربي اللسانية والسياسة سيُنبّهُهما إلى أنّ مصلحتهما في ألاّ يبقى منطقة فراغ سياسي للتدخّل الإقليمي والدولي بما فيه تدخلهما. وأنّ لقاء هذه المجالات الثلاثة الإرادي والمستقل هو الذي سيبني القاعدة التاريخية والاستراتيجية للأمة بتعددها اللساني والسياسي والحضاري.
نقطة الوعي هذه هي التي ستحول دون اصطدام الاستراتيجيات في ظل إعادة ترتيب على قدم وساق تشهدها المنطقة التي يمثل المجال العربي مركزها ونقطة توترها الرئيسية.
سؤال يفرض نفسه هنا: لماذا يختلف التدخّل التركي والتدخل الإيراني في اتجاهه من جهة علاقته بمسار بناء الديمقراطية؟
لماذا يتفقان في مناهضة الاحتلال ويختلفان في الموقف من نظام الاستبداد العربي؟
الإجابة ستكون في تجربة الدولة الوطنية في التجربتين. فلئن كانت الكمالية بَنَتْ الدولة الوطنية والأردوغانية ختمت مسار بناء الديمقراطية، فإنّ الشاهنشاهية بنَت مرحلة من الدولة الوطنية في إيران، وأكملت الخمينية مرحلتها الثانية. وبقيت مهمة بناء الدولة الديمقراطية في انتظار الإنجاز.
ويعود الأمر إلى اختلاف مسار "الاسلام السياسي التركي" والإسلام السياسي الإيراني. فالأوّل بلغ أعلى مراحله (العدالة والتنمية) في حين تعطّل الثاني داخل أطوار الثورة الإسلامية والحرب المفروضة عليها في 81. فلم يبلغ أعلى مراحله ونابت عنه الأصولية الخمينية التي كانت الأقدر على قيادة مرحلة من أخطر مراحل الدولة الإيرانية، واستطاعت أن تهمّش تيار الإسلام السياسي الإيراني ممثّلا في خط شريعة مداري وروافده من الإسلامية العلمانية (فدائيان إسلام، شريعتي، ومجاهدي الشعب) وتدجّن نظيره العراقي (حزب الدعوة) في مناسبتين: السنوات الأولى من الثورة، وبروز التيار الإصلاحي مع خاتمي وانتخابات 2009 المجهضة.
فضلا عن طبيعة الثورة الإسلامية الجذرية والتي جعلت من مهمتها الأولى استكمال المرحلة الثانية من بناء الدولة الوطنية الإيرانية أو إعادة بنائها على أساس جديد على قاعدة ولاية الفقيه، مما جعل ولاية الشعب (بناء الديمقراطية الإسلامية) مشروعا مؤجلا. بل لعل هذا المشروع لن يكون إلا سليل ثورة إصلاحية ستطلب من النظام الإيراني إصلاح نفسه مثلما فعلت ثورة المجال العربي.
هذه أفكار أولية حول التجربة الإيرانية سنعود إليها بالتفصيل في نصّ لاحق. وستكون خطوات الحق الفلسطيني المتسارعة نحو التحقق عاملا مهما في دفع هذه التحولات في جسد الأمة بما يساعد على ترتيب العلاقة والأدوار بين مكوناتها التاريخية وغَنائها اللساني والثقافي لتكون مركزا من مراكز الفاعلة في الصراع الدولي المتحوّل.
تجريم التطبيع وتجريم الاستبداد وجهان لحقيقة واحدة، ومهّمتان متلازمتان لا تنفصلان، فاعرفه.
** مقالنا : في المقاومة، أفريل 2010، الجزيرة نت.