1
قبل الانقلاب…
أدركنا مسار الانحدار في المشهد السياسي تحت سقف الديمقراطية ومرجعيّة دستور الثورة، وتبينّا مكونات قوى الانشقاق على المنظومة الديمقراطية المنهكة وضبطناها بدقّة في ثلاثة: الشعبوية والفاشية والوظيفية. مع الانتباه إلى التقاء ثلاثتها على تقويض منظومة الديمقراطية في أساسيْها: الدستور والمؤسسة الأصلية. من خلال سياسة "الترذيل والتعطيل". ولئن تكفّلت الشعبوية باستهداف دستور الثورة واختلاق معارك زائفة على الصلاحيات وادّعاء التفرّد بتأويله بغاية خرقه ثم تخريقه،
وثابرت الفاشية على شلّ البرلمان بتعطيل جلساته بكل أساليب الفوضى والبلطجة، كان دور الوظيفيّة أخطر حين اعتبرت استهداف التجربة من قبل الشعبوية والفاشية وجهة نظر سياسية، قبل أن تمرّ إلى وضع يدها في يدها (التصويت المشترك) ومنافستها في مهمتها التدميرية ومحاكاتها في أساليبها (البلطجة:سامية والمنجي)، لتنتهي إلى تحريضها الشعبوية على الانقلاب على الديمقراطية بواسطة أجهزة الدولة الصلبة في دعوات صريحة باسم "محاربة الفساد ووضع حدّ لديمقراطية فاسدة". وما تزال وثيقة الانقلاب الدستوري شاهدا على هذا المنحى المستهدف للدولة ولما بُني من مؤسسات النظام السياسي الديمقراطي.
كنّا نخوض الجدل السياسي بأطروحة متكاملة عنوانها البارز: الدفاع عن الديمقراطية واستجماع شروط بنائها في مواجهة استهدافها من قبل الثلاثي المذكور. وهو ثلاثي لم يخرج عن وصْمِنا: فكنا عند الشعبوية الضحلة خونة، وعند الفاشيّة النوفمبرية واجهة إخوانية مجرَّمة، وعند الوظيفية الذليلة "مانيش نهضاوي ولكن".
2
بعد الانقلاب،
لم تتنكّر التطورات المتلاحقة للنموذج التفسيري (شعبوية/فاشية/وظيفية) الذي تسلحنا به، فلم نرتبك في تحديد طبيعة الإجراءات المسماة استىثنائية. وقلنا هذا انقلاب على الدستور والديمقراطية. وساعدنا النموذج إيّاه على رصد "تحوّلات" الثلاثي داخل سياق الانقلاب.
انتظرت الفاشيّة والوظيفيّة مرور الانقلاب إلى تصفية خصمهما السياسي حركة النهضة، وطالبتا بذلك، في نوع من الوشاية على المباشر، في بيانات وتصريحات موثّقة. إذ كانتا تعتبران 25 جويلية انقلابا على النهضة، بعد تحميلها المسؤولية وحدها على سنوات الانتقال العشر، وكنا نعتبره انقلابا على الديمقراطية، وميّزنا بين "الأخطاء تحت سقف الديمقراطية" و"خطيئة الانقلاب عليها" والإمعان في هدم القليل الذي بُني من مؤسساتها، وتوريط الأجهزة في هذه المهمة التخريبية الخطرة.
حاول الانقلاب وروافده ترسيخ أنّ حركته مسار تصحيحي في مواجهة منظومة حكم فاسدة، ولكنّ مرورنا إلى مواجهته في الشارع بمبادرة مواطنية كفاحية تدافع عن الدولة والدستور والديمقراطية قلَب الموازين بأن أسقط أكذوبة التفويض الشعبي حتى قبل الاستشارة الفاشلة. ورسّخ عنوانا واحدا لحقيقة الصراع الدائر (ديمقراطية/انقلاب).
وكان لفرض حقيقة الصراع أثره الكبير في دفع الفرز السياسي على قاعدة الموقف من الديمقراطية إلى أقصاه، وتوسيع جبهة المدافعين عنها ، مثلما كان حافزا على مراجعة الموقف السياسي عند كثيرين، ولفت انتباه قوى دولية ومن بينها شركاء تونس إلى حقيقة المشهد الذي قد لا يوافق رغباتها وأهواء من عدّوهم ديمقراطيين حداثيين فاكتشفوا أنهم إلى جانب الانقلاب وهدم مؤسسات الدولة نكاية في الخصوم الإيديولوجيين.
3
لم تكن الحاجة إلى أمر 117 الانقلابي لتَبيُّن أن 25 جويلية انقلاب إلاّ عند من خاب انتظارهم في سعيّد الذي جمع السلطات الثلاث بين يديه إلى جانب السلطة الرقابية، ويتّجه إلى أن يكون سلطة تأسيسية.
وكانوا سيرضوْن بما قد يمنحهم من فتات، ولكنه كان منشغلا عنهم بتوهّمه القدرة على تنزيل مشروعه السياسي الهلامي. وليس مطلوبا منهم إلا الالتحاق به صاغرين. ومثلما لم يكفّ عن خطابه العنيف التقسيمي لم يتردد في نعتهم بالطامعين والمرتزقة، حين همّوا بالانفضاض من حوله. وأمّا من ربطوا مصيرهم بمصير الانقلاب فإنّ تجاهله إيّاهم لم يعصمهم من ذلّ المناشدة وصَغَارِ التسوّل السياسي.
لم يمنحهم سعيّد شيئا فانفضّوا من حوله بمسافات مختلفة "معارضين رغما عنهم" وبسقوف متباينة ولكنّها متدنية تليق بوظيفيين مثلهم. ومن جهة أخرى كان الشارع الديمقراطي يجذب نحو سقوف أعلى لا ترضى بأدنى من غلق قوس الانقلاب واستعادة الديمقراطية ومؤسساتها.
وكان أنْ أدّى هذا الجذب المتصاعد إلى تفكك داخل الصف الوظيفي الذي اتسع بعد الانقلاب ليمتدّ من عبير وصولا إلى الطبّوبي مرورا بـ"الوظيفية الأولى" التي توضّحت معالمها بتنكرها للديمقراطية داخل منظومة 2019.
4
طبيعة الانقلاب ومنحاه العبثي التدميري فرضا تزامن مهّمتين: إيقاف العبث وإعداد البديل الديمقراطي. وفي هذا السياق كانت جملة "مواطنون ضدّ الانقلاب": يد تسقط الانقلاب ويد تبني المشترك.
لم تكن الجبهة شكلا فارغا يضع فيه كلّ من التحق به تصوره ووجهة نظره. الجبهة كانت مضمونا يبحث له عن الشكل السياسي الملائم، وكان هذا المضمون تحدّد بالهدف المزدوج الذي ارتسم في أتون التصدّي للانقلاب وعبثه بمقدرات البلاد.
وفي الوقت نفسه تُمثّل مهمّة إسقاط الانقلاب وإعداد البديل الديمقراطي سقفَ الجبهة. وهو سقف لا يمكن النزول تحته عند كل من يرفض الانقلاب على الدستور والديمقراطية.
لذلك فإنّ استهداف اتحاد الشغل جبهة الخلاص الوطني وممثلها الأستاذ نجيب الشابي، بدون مقدّمات، هو في حقيقته استهداف لهذا السقف العالي المختلف سياسيا وقيميا عن سقف 25 جويلية الذي مازال يقبع تحته. وتعبير عن انزعاج مما يمكن أن تصيرَه الجبهة وهي تستلم راية مواجهة الانقلاب وإيقاف عبثه المدمّر.
وفي هذا الموقف من الجبهة لم يكن الطبّوبي إلاّ ناقلا لموقف الوطد والتيار القومجي داخل المكتب التنفيذي. لم يغفروا لحمّة ونجيب إشراكهما النهضة في 18 أكتوبر. مثلما لم يغفروا للمرزوقي مشاركته في الترويكا عندما أُريد إفرَادُ النهضة الفائزة بالانتخابات كما أُفردت حماس عشية فوزها في انتخابات 2006 من قبل حكومة دايتون الفتحاوية وراعيها الدولي.
5
في هذا السياق يُفهَم موقف أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل من جبهة الخلاص الوطني ومن منسّقها الأستاذ نجيب الشابي. ونراه موقفا جاهزا حتى قبل الإعلان عن الانطلاق في تشكيلها الأسبوع الفارط.
والأمر يتعلّق بطبيعة الجبهة والسياق الذي ظهرت فيه وبموقع اتحاد الشغل، قبل الانقلاب وبعده.
جبهة الخلاص الوطني سبقها مضمونها، وارتسم سقفها قبل ظهورها. فالإعلان عنها كان تتويجا لمسيرة مواطنية كفاحيّة في مواجهة الانقلاب دفاعا عن الدستور والديمقراطية. وكانت خلاصة هذه المسيرة المثابرة في استجماع شروط إسقاط الانقلاب، وإعداد البديل الديمقراطي بأفق إنقاذي. ذلك أنّ حجم الدمار الذي أحدثه الانقلاب ومستويات عبثه بالدولة يجعلان من الإنقاذ الاقتصادي أولوية.
والطبّوبي باستقباله عبير مرسي واستهدافه جبهة الخلاص الوطني ومنسقها إنّما يرسم سقفا لجبهة موازية كان لا بدّ أن تقوم أمام مشهد يشغله متصارعان الانقلاب وجبهة الخلاص وريثة المسار الكفاحي المواطني المظفّر.
6
مازال الاتحاد يعبّر عن اختلافه مع الانقلاب من داخل سقف 25. وتوحي بعض تصريحات أمينه العام وأعضاء مكتبه التنفيذي، إلى أنّ المنظمة تتجه إلى الخروج من سقف 25. غير أنّ استقباله لعبير موسي يؤشّر على وجود توجه إلى إعادة ترتيب داخل الصف الوظيفي بمختلف مستوياته. فبعض القوى التي التحقت بمعارضة قيس سعيّد ورفضت تفرّده بالسلطة وجدت في استقبال الطبّوبي لعبير عاملَ إرباك فعلي لها، فإن هي اتجهت إلى الاتحاد أحرجها جِوار عبير، وإن هي اتجهت نحو الجبهة أحرجها موقف الاتحاد المناهض للجبهة. وبعضها الآخر مازال على وظيفيّته الأولى، ولئن كان من حقّه أن يضع يده في يد الفاشية لسحب الثقة من رئيس البرلمان. فإنّه من افتقاد المروءة مطالبة الرجل بالاستقالة من حزبه والانسحاب من الحياة السياسية استئناسا بالزرڤوني ومؤسسته المختصة في سبر مشاعر الكره عند الشعب الكريم.
وفي كل الأحوال نحن أمام معارضتين بسقفين مختلفين: معارضة وظيفيّة بقيادة الاتحاد ومعارضة ديمقراطية بقيادة الجبهة مثلما سطّر الأخ الرفيق حبيب.
وقد تتفقان في أنّه لم يبق أحد مع قيس سعيّد، ولكن سؤال المعارضة الديمقراطية هو : من بقي مع الديمقراطية؟
فإزاحة سعيّد عندها لا تعني ضرورة نهاية الانقلاب.
ويجمع بين مكونات المتحوّلين من مساندة الانقلاب إلى معارضته أنّها كانت في مساندتها مناهضةً للديمقراطية، وحينما أعلنت خلافها مع سعيّد، لاشيء يدلّ على أنّها تنتقل إلى موقف الدفاع عن الديمقراطية ودعم شروطها.
7
قيام جبهة الخلاص الوطني يفتح الباب للقاء واسع بين القوى الوطنية على مشترك سياسي يدخلنا إلى مرحلة ما بعد الانقلاب، ولن يغيّر هذه الحقيقة ما يمكن أن تلجأ إليه سلطة الانقلاب من إجراءات قمع ومصادرة للحقوق والحريات. فقد كانت الغاية من الانقلاب عند أنصاره شطب الخصم الإيديولوجي، وإعادة إنتاج المشهد السياسي. وعندما تصدّى الحراك المواطني ببسالة وغيّر من ميزان القوى اتجهوا إلى جرف الانقلاب مع الخصم الإيديولوجي، وإذا تعثّر هذا جنحوا إلى البحث عن معادلة بين أنصار الديمقراطية وخصومها تحفظ المصالح القديمة والمستجدة.
وقد يسرّع بأثر هذه الحقيقة موقف الاتحاد منها واتجاهه إلى أن يكون نواة لجبهة موازية. وهو بذلك يستعيد سيرته الأولى زمن الاستبداد وفي آخر أيّام الاستبداد في الانزلاق المتدرج من مساندة المستبد إلى أخذ مسافة منه متناسبةٍ مع اتجاه الأحداث وما تشير إليه من مآلات.
والاتحاد في تقدير شركاء تونس (وفي تقديرنا) جزء من السيستام، والجزء من نظام بن علي الذي لم يصبه تغيير وتبديل.
ولذلك يصرون على ألاّ حلٌ بدونه. ومن عادة هؤلاء الشركاء أنّهم لا يطمئنون إلاّ إلى أبناء المنظومة القديمة، ويسمحون بتشريك مشروط لخصومهم، إذا اقتضت المعادلة السياسية ذلك. وتكون الرعاية في كل هذا لماما فرنسا التي ليس لها حزب، ولكن لها حضور في كل الأحزاب.
وملخّص كلام الشركاء إلى نظرائهم من أبناء القديمة: اعملوا جبهة وجيبوا معاكم الاتحاد تو نلقوا حل لسعيّد".
وفي كلّ الأحوال لن يسجل غلق قوس الانقلاب إلاّ على أنّه انتصار تاريخي للديمقراطية وإن لم يتولَّ الديمقراطيون الأمر.
فَأَنْ يسقط انقلاب، في المجال العربي، وبوسائل كفاح مواطنية حدث تاريخي سيكون له ارتدادات قوية في مجاله والعالم.