من دلائل تدهور المشهد السياسي وتفكك مكوّناته من أحزاب ومنظمات أنّك لا يمكن أن تظفر بموقف واضح وموحّد لهذا الحزب أو لتلك المنظّمة يتمّ التعبير عنه ببيان يمكن الرجوع إليه. وتمثّل النهضة الاستثناء الوحيد تقريبا فرغم ما شقّها من خلافات فإنها مازالت تعبّر في المواقف الرسمية ببيان.
ومن جهة أخرى فإنّ غياب الموقف المكتوب أو تعدّد التصريحات من القضية الواحدة يعبّر عن حيويّة وعن تحوّل في ذلك الجسم السياسي أو النقابي. وهو تحول كما يكون نحو الأفضل يكون نحو الأسوأ. ويمثّل حزب التيار والمنظمة الشغيلة مثالين لتوضيح الفكرة.
فحزب التيار منذ استقالة محمد عبو لم يعد له موقف موحّد من المستجدّات لنجد مواقف متباينة حتى لا نقول متضاربة من رئيس الجمهورية ومما يحدث في البرلمان ومن تصريحات رئيس الكتلة الديمقراطية لقناة التاسعة ومن التسريبات الأخيرة. ويمكن أن أذكر على رأس كل موقف اسما لقيادي من قيادات الصف الأول. الحزب، فموقف غازي الشواشي من قيس سعيّد ليس هو موقف سامية عبو...الخ.
أذكر هذا ليس بغاية إظهار انقسامات داخل الحزب فكل الأحزاب تعرف هذا الأمر في مثل هذه الحياة السياسية المجنونة التي نعرفها، وإنّما للتحذير من السقوط في اختزال الحزب في موقف واحد سواء من قبل أنصاره أو خصومه (خاصة إذا اعتُبر سالبا: مناهضا لمسار بناء الديمقراطية مثلا) تحجب صيغةُ التعميم فيه عنّا وعن أنصاره ثراءَ المشهد داخله، وتمنع إدراك تنوعه وإمكانية ولادة الموقف المتجاوز، والأخطر أنّها توقعنا في نوع من الجوهرانية المهلكة في التقدير السياسي والاستفادة من التوترات والتحولات.
ويمكن أن نخلص إلى أنّ الحزب تعرف تجاذبات مهمة وهي أقرب إلى الواقف على مفترق طرق ومطلوب منه أن يختار بين أكثر من وجهة. ولا نراها إلاّ وجهتين: الانحياز إلى مسار الديمقراطية ودعم شروطها أو ما يضادده. وطرح سؤال العلاقة بشروط الديمقراطية يُفترض أن يكون ملازما لكل قوة سياسيّة في سياقنا العجيب. ويبقى أهل كلّ حزب أدرى بشعاب حزبهم، دون أن تمنعنا هذه الدراية حق إبداء الرأي المؤسَّس
يصحّ ما قلناه عن حزب التيار عما نلاحظه في أداء المنظمة الشغيلة. ودون تردّد يمكن القول إنّه لم يعد للاتحاد موقف موحّد منذ انتخابات 2019 ، وتحديدا بعد ظهور الوجه السياسي للرئيس قيس سعيّد وعلاقته وتقاطعه مع الفاشية. بل إنّ الحديث عن موقف واحد للاتحاد بلا مصداقية سياسية هذه الأيام..
ليس للاتحاد موقف، يعني أنّ له اليوم مواقفَ. وإذا كان الموقف في الغالب هو خلاصة لتوازنات داخل الجسم السياسي أو المنظّماتي فإنّه في كلّ الأحوال يوجَّه عند إصداره لتحديد العلاقة بالخارج ممثلا في الفاعلين في المشهد السياسي والاجتماعي.
والأهمّ في كل هذا أنّ كل موقف من هذه المواقف المتعددة للاتحاد يتجه إلى التأثير في التوازنات الداخلية أكثر من اتجاهه إلى التأثير في المشهد السياسي وتجاذباته.
وفي هذا السياق يمكن التمييز في مواقف الاتحاد بين موقفين:
موقف يتبلور حول الأمين يتجه إلى توفير شروط الحوار الوطني بأفق حكومة وحدة وطنية قد تكون هي الإطار الأمثل لحوار اقتصادي اجتماعي يهيّئ للإصلاحات المطلوبة. وتبدو أسماء الطبّوبي والغنوشي وماجول نواة هذا التوجه. وهو توجه غير مفصول بالنسبة للاتحاد عن موقف النقابات العالمية الحرة (السيزل وعلاقتها بتحولات منطقة س/ص وحوض المتوسط وعلاقة الرهانات الاقتصادية القادمة بالديمقراطيات الناشئة.
وموقف حساسيات إيديولوجية (وطد، قوميين) داخل المكتب التنفيذي، وهي حساسيات تدفع من خلال مواقف تصدر من داخل المنظمة وباسم بعض النقابات القطاعية نحو موقف يريد أن تكون المنظمة في مواجهة الانتقال الديمقراطي، وهي تلتقي في ذلك مع قيس سعيّد رغم موقفه من مشروع الحوار الذي تقدّم به الاتحاد وتتقاطع مع الفاشية، ومع بعض مكونات برلمانية صارت حزام قيس سعيّد البرلماني.
في هذا السياق تأتي تصريحات سامي الطاهري المساندة لإرهاب عبير مرسي في خير الدين، وتأتي بعض الإضرابات القطاعية الفجئية (إضراب السكك الحديدية الذي شلّ الضاحية الجنوبية )، وحادثة تجميد عضوية أحمد المسعودي كاتب عام نقابة موظفي البرلمان بسبب تصدّيه لبلطجة عبير وغيرها من المواقف التي لا تمثل موقف الاتحاد وإنّما للتشويش على توجّه المنظمة "الاستراتيجي" ومحاولة التدارك السياسي عليه.
فداخل الاتحاد مواقف، يجب ألاّ نخطئ من بينها الموقف العام الذي تمثله الأمانة العامة. فالمنظمة الشغيلة بدورها تعرف مخاضا مثّل كلّ الأجسام السياسية في سياق سياسي متوتر غير مسبوق، ولكنه واعد.
ويبقى الفرز الأساسي هو الذي يتمّ على قاعدة الديمقراطية ومسار بنائها. وهذا بذاته مثير.