منازلة عالمية اليوم في تركيا. سيكون لنتائجها (في أي اتجاه كانت) أثرا مباشرا على محاور دولية بصدد التشكل. سيكون لها تأثير مباشر على تركيا في علاقتها بدور العرب والمسلمين بعد الربيع وبتوازنات الحلف الأطلسي وبمستقبل أوروبا والعالم الشرقي بقيادة الصين. انتخابات سيكون لنتائجها دور حاسم في مستقبل الديمقراطية في المجال العربي ومحيطه.
يمكن الحديث عن مرحلتين كبرييْن في تاريخ تركيا المعاصر: مرحلة تأسيس الدولة الوطنية على يد "العلمانية الكمالية" ومرحلة بناء الدولة الديمقراطية على يد "العلمانية الإسلامية".
والعلمانية الكمالية صورة من "العلمانية المسيحية" الأوروبية وأساسها العميق فكرة "الوسيط"(النبي وسيط) التي قامت عليها الدولة الحديثة. و"العلمانية الإسلامية" صورة من فكرة البلاغ (النبي مبلّغ) أساس الانتظام السياسي في الإسلام و"الدولة الأخرى الممكنة". ونقترح تسميتها "الدولة الراعية"، سيادتها رهينة دورها الذي تشترك فيه مع المجتمع (موّجهة بمنوالين سياسيين: خادم القوم سيّدهم، وكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته) .
أمّا الدولة الحديثة فمنْبَتها الثقافي العميق "يهو -مسيحي"، ولذلك لا معنى لتصنيفها إلى دولة دينية ودولة مدنية في الفكر السياسي الحديث. فهي عندنا " فكرة دينية" ويمكن أن نطلق عليها اسم "الدولة الوسيط" سيادتها سابقة على مهمتها (موجّهة بمنوال سياسي "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله").
وإذا كانت الحداثة الغربية في جوهرها مسار علمنة للمسيحية انطلق مع الإصلاحيْن الديني والفلسفي في القرن السابع عشر بأوروبا. فإنّ الحداثة الإسلامية ثاوية في الإصلاح المحمدي الذي قام على مبدأين: نفي الوسيط، ونتيجته أنّ "الدين هو ما يفهمه الناس من الدين". وهذا معنى أنّه للناس كافة.
خلاصة تاريخ تركيا الحديث : الكمالية أسست الدولة الوطنية والأردوغانية (العدالة والتنمية ) أسست الدولة الديمقراطية.
وهذا ما يجري وسيجري في تونس (والمجال العربي) رغم ما يقوم من عراقيل لن توقف بلوغ المسار غاياته. فيتلخّص تاريخ تونس بعد 56 في مرحلتين: مرحلة تأسيس الدولة الوطنية بقيادة البورقيبية ومرحلة تأسيس الدولة الديمقراطية بقيادة النهضوية.
المرحلة الأولى رمزها السياسي بورقيبة والمرحلة الثانية رمزها السياسي راشد الغنوشي. دون أن يختزل تاريخ البلاد بعد 56 في الرجلين بقدر تكثيفهما لاتجاهين عامين. مع ضرورة التدقيق في خصوصية التجربة التونسية من جهة أنّ الدولة الوطنية في تركيا تأسست مع أتاتورك بإنهاء نظام الخلافة العثماني (1924)، في حين كانت نشأة الدولة بمعناها الوطني في تونس مع البيات الحسينيين (وربما قبل) واستمرت جهويّة أي مركزية لا تغطي كل مجالها (كان هذا في الإيالة وفي الجمهورية).
وهذا مدعاة للانتباه إلى أنّ مرحلة تأسيس الديمقراطية في بلادنا مزدوجة تجمع بين مهمتين: تحويل الدولة من الجهوية إلى الوطنية (مهمة المرحلة الانتقالية برأب الصدعين الهووي والاجتماعي لكي تغطي الدولة كل مجالها)، ومهمة تأسيس الديمقراطية واستقرارها.
منطلقنا في كل هذا أطروحة لنا حول دور الإسلام السياسي في بناء الديمقراطية عرضناها في أكثر من مقال. واعتبرنا الإسلام السياسي، بعد التدقيق في ضبط حدوده، ظاهرة سياسية اجتماعية تاريخية تمثّل أهمّ شروط تأسيس الديمقراطية وتمثل "العدالة والتنمية" أعلى مراحلها. ويرتبط بلوغ هذه المرحلة بتأسيس الديمقراطية، ونهاية الإسلام السياسي بحلوله في هوية جديدة. وتمثل تركيا نموذجا تاريخيا تطبيقيا لهذه الأطروحة.
من هذا ينتفي المسعى الغبي في تونس والمجال العربي ومحيطه لفكرة الاستئصال. فالإسلام السياسي لن يختفي إلا بتأسيس الديمقراطية. وإذا ما وجدنا حضورا للإسلام السياسي بأي مظهر من مظاهره فذلك دليل على أنّ الديمقراطية لم تتأسس بعد.
ومن هذه الزاوية فإنّه لا معنى لمقاربة انتخابات تركيا بأنّها بين الإسلاميين والعلمانيين في تركيا إلاّ عن من مازال حبيس إيديولوجيات مفوّتة. وبالمعنى الذي ذكرنا يكون أردوغان هو "العلماني" ومنافسه هو "الديني". فتكون العلمانية الإسلامية مرحلة متقدمة عن العلمانية المسيحية وإضافة لأشكال الانتظام السياسي الحديث ومقدمة صلبة إلى معالجة أزمة الدولة الحديثة. فالتوحيد بما هو تحرّر مطلق يمثل جوهر العلمانية السياسية المأمولة. وبهذا المعنى اعتُبر الإسلام "دينا ضدّ الدين"( علي شريعتي)، في حين مثّلت الثقافة اليهو- مسيحية وهي أساس الحداثة الغربية بما هي "أمل لا محدود في العقل ويأسٌ مطلق من الدين" ما يشبه الارتداد إلى "منوال الشرك" تحت تأثير الديانات والفلسفات القديمة. وإنْ كان تيّار ما بعد الحداثة بما هو " شكّ ونقد ومراجعة لمبادئ العقل" انتباها معرفيا وتقدما باتجاه منوال التوحيد.
تعرّضت الديمقراطية في تركيا، بعد تأسيسها، إلى محاولة انقلابية في 2016 ولكنها فشلت أمام مقاومة ميدانية من أنصار الديمقراطية ومساندة سياسية فيهم من قبل قسم مهم من الحداثيين.
وهناك توتّر عند المتابعين بين الخشية من "الانقلاب" على الديمقراطية بواسطة الديمقراطية، وبين الاطمئنان إلى أنّ "الانقلاب الديمقراطي" لن يخرج فكرة التداول السلمي على السلطة وإن تناقضت الاختيارات الكبرى والرهانات والعلاقة بالوضع الدولي وتوازناته.
وفي تونس تمّ الانقلاب على الديمقراطية في 2021، في المرحلة الانتقالية. وبعد سنتين يبدو ما جدّ في 25 جويلية قوسا بلا معنى وبلا منجز يُنتظر أن ينغلق باتجاه مرحلة انتقالية جديدة صعبة لكنها لن تخرج عن استعادة مسار الانتقال وتجديد الأمل ببناء ديمقراطية مستقرة.