حقيقة قد نغفل عنها أحيانا، وأحيانا نتغاضى عنها، وهي وضع البلاد الكارثي من ناحية البنية التحتية. وتواصل اهتراء هذه البنية إلى حدّٰ مخجل.
يا رسول الله ثماني سنوات بصفر إنجاز، فمطار تونس قرطاج محتحت، أقسم بالله يعور، وتكتشف هذا أكثر عندما تسافر وتقارنه بمطارات العالم. والطريق السيارة صفاقس رأس الجدير لتوة واحلين فيها، وفي كل مرة يقع ترحيل موعد إنتهاء الأشغال.
الحد الأدنى من الإنجازات الّي كانت ممكنة : مطار دولي، TGV، طريق سيارة من شمال البلاد إلى جنوبها، وثلاث طرق سيارة بالعرض. هذا المفروض كان تحصيل حاصل. وكان بالإمكان توفير التمويل عندما كان العالم ينصت إلينا ومستعد لمساعدتنا حتى من باب الفضول.
المسؤول الأول عن هذا عديدون ولكن المسؤولية المباشرة تعود إلى من حكم في كل هذه السنوات : الترويكا ثم منظومة 2014 ( النهضة والنداء بدرجة أولى).
أمام هذا الوضع لم تعد كلمة الفشل تعبّر عن الحالة فنحن أمام عجز شامل وشلل كامل، لم يعد مستساغا تفسيره بالتآمر على الثورة والتجربة الديمقراطية وبناء المواطنة. وحتى في المسار السياسي نعرف تقهقرا حقيقيا.
التآمر على الثورة سنة، والثورة المضادّٰة والسيستام وعصابة السراق حقائق ولكنها لا تبرر ولا تفسّٰر وحدها هذا الشلل الكامل والعجز عن إنجاز الحد الأدنى. ولا معنى للحديث عن الأزمة المالية الاقتصاديّة الخانقة وعن وضع الدينار والمديونية والتضخّم....
في ظل كل هذا كيف يمكن أن تتواصل علاقة الناس بالسياسة والشأن العام والانتخابات والمسار الديمقراطي؟ منطق الأشياء يقول إنّ النتيجة الطبيعية لهذا الوضع المزري أن يقاطع الناس المشهد مقاطعة كاملة.
ومن ناحية أخرى، وفي مثل هذه الحالات، يمكن أن يكون الصندوق وسيلة لتغيير الوضع ومعاقبة المسؤول عنه. ولكن في مشهدنا لا تكاد تجد عرضا سياسيا جادّٰا من جهة الرؤية ووضوح الأهداف ونجاعة الوسائل. فإذا كان في الهم ما تختار فإن همّنا تقريبا ما فيه ما تختار.
لماذا الأسف؟
يفشل مجلس نواب الشعب مرة أخرى في انتخاب ثلاثة أعضاء للمحكمة الدستوريّة. من المهم أن نعرف الأسباب من خلال اتجاهات التصويت والحضور بالنسبة حتى تتوضّح مواقف الكتل خاصّة.
هناك أسف كبير بسبب هذا الفشل. وهو فشل غالبا ما يرد مصحوبا بقناعة قوامها أنّٰ التجربة على كف عفريت في غياب هذه المؤسسة. وكأننا سنهلك بدونها.
المحكمة الدستوريّة مهمة وأساس متين للديمقراطيّة، ولكن تجربة الثماني سنوات لا تزكّٰي هذا القناعة، فقد تم تأسيس هيئات تعديلية ودستورية كهيئة الحقيقة والكرامة والإيزي والهايكا. فكانت في معظمها هياكل فارغة. فالهايكا انتهت إلى التفاهة، والإيزي تمت هرسلتها بغاية التأثير في إحاطتها بالانتخابات في ظروف الشفافية والنزاهة، وانتهت الحقيقة والكرامة إلى محصّلة هزيلة في جبر ضرر الضحايا واعتذار الجلادين وإقامة المصالحة، وحتى التقرير النهائي جاء مبتورا.
هذا لا يقلل من قيمة هذه المؤسسات ولكن ينبّه إلى أنها محصّلة لـ"العركة السياسية" التي لم تضع بعد أوزارها، وهي عركة على "قواعد اللعبة" واكتمال المنظومة الديمقراطية واستقرارها، طرفاها قديم وجديد، أشواق ديمقراطية ووسواس استبداد ونوازع غنائمية مستحكمة.
في ظل هذه العركة المحتدمة ستكون المحكمة الدستوريّة قلعة أخرى فارغة، وإن ترأسها العياشي الهمامي المناضل الحقوقي المحترم. بل قد تكون أداة في يد أعداء الديمقراطية للعبث بالمسار، مثلما كان حال الهيئات الأخرى. ولن ينجح القضاء التائق إلى الاستقلالية في تثبيت استقلاليته في ظلّ الشروط الحالية، مع ضرورة تواصل معركة الاستقلالية بتغيير الشروط لبلوغ الهدف. وهي شروط كانت في صالح القديم الذي نجح في إفراغ المؤسسات الدستوريّة والتعديلية من مضامينها بهرسلتها وتتفيهها والتشكيك في دورها حينا، واحتوائها حينا آخر.
مستقبل المحكمة الدستوريّة مرتبط بمستقبل التجربة كلها، وهي جزء منها في نفس الوقت، وستكون انتخابات 2019 نافذة على هذا المستقبل قد نرى من خلالها بعض ملامحها. وفي كل الأحوال هي عركة لن تنتهي غدا.
الأمر لا يتعلق بالمؤسسات في ذاتها، وإنّٰما بقواعد اللعبة وميزان القوى وصراع اللوبيات والمصالح ومنزلة الثقافة الديمقراطية في المشهد.
المؤسسات كالنصوص المرجعيّة ( الدستور ) ليست أكثر من صدى لما تقدّم.