في المرويات الشعبيّة أن ربّ عائلة مهوس بالملاحظة والتنبيه للنّقص في بيته بطريقة عصابية. فكان كلّما دخل إلى داره عائدا من العمل أو من المقهى إلا وساق جملة من الملاحظات عن ترتيب البيت وشؤنه في عبارات لا تخلو من توتّر واحتجاج وتقريع. فقد يلاحظ عن كرسي في غير موضعه، أو ترتيب للأثاث لا يعجبه، أو يحتج على شلاكة طيّشها أحد الأبناء الأشقياء في الكلوار…يلاحظ على كلّ شيء..
إنّه لا يترك كبيرة وصغيرة إلا احتجّ وأرغى وأزبد..فكانت عودته إلى المنزل بمثابة حالة طوارئ عاصفة يومية تستعدّ لها ربّة البيت المسكينة وتنغّص على الجميع العادي من يومهم.
وفي يوم مشهود قرّرت ربة البيت ألا تترك له ما يلاحظه وبذلت في ذلك كلّ الجهد. ولما دخل صاحبنا، نظر يمنة ويسرة ثم تجوّل في كلّ الغرف، ولم يسمعوا منه صوتا… ثم عاد إلى الصالة وجلس فالتحق به الجميع منتظرين ردّة فعله. نظر إليهم خائبا فتوقعوا منه استسلاما أخيرا ونهاية لحالة الطوارئ المستدامة، ولكنه استقام واقفا وأرخى سرواله وأشار بسبابته إلى "البوكيمون"، في لهجة لا تخلو من احتجاج: تو هذي طهارة يا رسول الله !!!
صاحبنا هذا فكّرني في بعض سكّان الفايس بوك من جماعة "الطز حكمة" و"الوعي الفذ" يقفون نهار وليل على رؤوس أنهج الفايس بوك شادّين في خناڤ العباد : هذا يجي، هذا ما يجيش، أنت بيك أنت عليك…في لهجة كلها تنمر وتوهّم بامتلاك الحقيقة.
فينغّصون على الساكنة ما استحسنوه وما فرّوا إليه من موقف أو مشاركة أو فرجة ممتعة…وتفاقم هذا الأمر مع مونديال قطر.
هؤلاء سميتهم جماعة "هلك الناس"، فعندما تكتب تقديرا (فيه وعليه) حول المشهد السياسي يسخطوك بعبارة "نخبة ميؤوس منها". وعندما عمّ الصمت بعد الانقلاب انبروا منددين بـ"خذلان النخبة"، ولما قامت قلّة بالتصدّي للانقلاب ما خلّوا ما قالوا فيهم. وقصفوهم بعبارة أشدّ : عملكم لا يخدم إلاّ النهضة". وعندما توالت الوقفات والمظاهرات الصاخبة عادوا مجدّدا بالنبرة نفسها : وماذا بعد؟؟!!
بل منهم من ذهب إلى أن مواصلة الاحتجاج بهذه الطريقة يطيل في عمر الانقلاب. فضلا عن التشكيك في هذا وذاك من الناشطين بلا جدوى..
وهم يعلمون أنّ من واجهوا لم يدّخروا جهدا وأن شروط المعركة ليست محلية صرف، وأن الأمر فيه ما فيه من التعقيد…فبحيث. النقد مطلوب في كل الأحوال، غير أنّهم يصرّون، أيّا كان الموضوع، على منطق الأستذة الذي قد يريح "الأستاذ" ولكنه لا ينفع "التلميذ".
باش نكون قاسي شوي لأقول إنّ أسبابا مختلفة وراء هذا المنزع. فهناك من هو "كاره لغيره" (في الغالب أسباب إيديولوجية). وهناك من هو "كاره لنفسه" يسعى إلى إرضاء خصومه دون أن يشعر، لا يعبّر عن رأي قبل أن يرذّل ما عنده طلبا لاعتراف لن يكون. ولا أراه وهو يعبّر عن رأيه إلا كمن يبدأ ينزع ملابسه قطعة قطعة حتى يقف عاريا، مثل صاحب "البوكيمون". ولكنه لن يُعرف ولو خرج من جلده.
على سبيل المثال، لا أجد سببا للتنمّر بمن أشاد بالمونديال الحالي واعتبر التظاهرة "معجزة قطرية"، ولا معنى أيضا لشيطنة الموقف الذي يرى في المونديال إهدارا للمال وفسادا .
أسباب هذا الانقسام في النخبة معروفة وهي صورة من المعضلة الأكبر، ولكن يمكن التعبير عن وجهة النظر كاملة وبالجذرية المطلوبة دون إهانة الآخرين
والدخول في خصوصياتهم.
أنا واحد من الناس نحب الكورة ونحب الفرجة، وفي سنوات الجمر كنت ننصب القعدة مع أطفالي لمتابعة الفريق الوطني في متعة لا تضاهى، وكانت ربة البيت تحاول مازحة أن تفسد عليّ الفرجة قائلة: تو تندم على حماسك هذا وقت الّي يحكوا في نشرة الأخبار على "عنايته الموصولة" ودوره في فوز نسور قرطاج". فأجيبها حازما: ابعديني يرحم والديك حاجتي باللحظة، وراني ولد الأولمبيك". وبعد الفورة والحماس أعود إلى لعن بن علي والتجمّع دون أن أخسر تلك اللحظة الجميلة. أعرف أني أتداوى…لأواجه واقع البطالة وماراطون المراقبة الإدارية القاتل.
بجاه ربي سيبوا الخلق، وخلوا كل واحد في همه. وهذا لا يمنع من التعبير عن الرأي الخاص كاملا، ولكن دون إهانة الآخرين وشيطنتهم والتأستذ عليهم وتوهم امتلاك الحقيقة.
فالحقيقة (هاني وليت حتى أنا نتأستذ) في كل عركة لا يمكن أن توجد في جهة واحدة. حتى فيما رواه القرآن عن قصّة الخلق كان لإبليس نصيب من الحقيقة في رفضه السجود للمخلوق الجديد، الّي منه كل الكوازي ونحن منهم .
مع الأسف في السجال السياسي يقع أغلبنا في محظور إهانة المخالف في شخصه بدل التعبير عن وجهة النظر الخاصة التي قد تبلغ درجة تقويض وجهة النظر المخالفة، وهذا مطلوب في خدود الاحترام.
ومع أسف أكثر، فإنّ ما أنقده موجود فينا جميعا بدرجات مختلفة، وعسى أن يخفف الوعي به من حدّته ويقلل من ضرره على مستوى قيمة الفكرة المعروضة وعلى مستوى نسيج العلاقات التي تربطنا، فالمجتمع (عدتُ للأستذة) ليس كمّا من الناس بقدر ما هو نظام من العلاقات.
تو هذا انقلاب؟!! تو هذي دولة؟؟!!