يطلق مصطلح الشعبوية على ظواهر سياسيّة متشابهة، ولكنّها غير متطابقة بسبب اختلاف سياقاتها التي ظهرت فيها والشروط التي أنتجتها. ومن هذا المنطلق تعدّ الشعبوية مصطلحًا لم يستقرّ بعد عند مفهوم يرسم حدود الظاهرة ويضبط مضامينها.
وتحتلّ الظاهرة هذه الأيّام صدارة الاهتمام في الصحافة والإعلام ومراكز البحث، في العالم. ولا شيء يضاهي كثرة دوران المصطلح على الألسن إلاّ عبارتي الإرهاب والعولمة في تسعينيّات القرن الماضي.
وتمثّل الشعبوية اليوم في تونس جهةً سياسية طارئة على المشهد السياسي منذ انتخابات 2019. وهي الانتخابات التي مكّنت أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد من أن يصبح رئيسًا للجمهوريّة. وقبل أن ينهي عهدته التي تمتدّ إلى سنة 2024 انقلب على الدستور وجمّد البرلمان وحلّ الحكومة. ومنذ 25 جويلية تعرف البلاد أزمة سياسيّة خانقة تنضاف إلى الأزمة الماليّة الاقتصادية المتفاقمة.
• الشعبوية والدولة
نشير إلى أنّ الشعبويّة ليست وليدة هذا القرن ولا القرن الذي سبقه. فهي تمتدّ إلى السياقات المتوتّرة التي عرفها الانتظام السياسي وسبل إدارة الشأن العام. وقد عرفت موجات متعدّدةً، منذ قرنين تقريباً. إذ كانت تطفو على سطح المشهد السياسي في المنعرجات السياسيّة والأزمات العميقة.
ومن الصعب الحديث عن شعبويّة في الانتظام السياسي ما قبل الدولة. وما يُعرف بالمجتمع البدائي أو البدوي. ففي هذه المجتمعات الأفقيّة والتي يكون فيها الكل راعيًا والكل مسؤولًا عن رعيته. وفيها تكون الزعامة نتيجة التفاني في خدمة الجماعة والوفاء لقيمها والاجتهاد في تمثّلها. وبهذا المعنى يكون خادم القوم سيّدهم. ولعلّ أهمّ ما يميّز هذا الانتظام أنّ "الشعب" ممارس للسلطة وموضوع لها في الآن نفسه. فلا معنى للحديث باسم الشعب، وأنّ أعداء الشعب يقعون خارجه وهم الجماعات الأخرى المماثلة والمنافسة على المكان والنفوذ. ومن فطنة هذه المجتمعات الأفقيّة أنّها على وعي عال بسلطة الكلام. لذلك فُصِل فيه الكلام عن كلّ سلطة.
تظهر الدولة نتيجة الانقسام الاجتماعي، فيظهر من الجماعة فريق يحكم الجماعة باسم الجماعة ومصلحتها. فتتغيّر العلاقات من الأفقيّة إلى العموديّة، وتظهر في المجتمع تشكيلات وطبقات اجتماعيّة. ويصبح الشعب كيانًا والسلطة المنفصلة (الدولة) كيانًا آخر. في هذه اللحظة تظهر الشعبويّة وهي أشبه بالحنين إلى حالة الانسجام المفقودة التي كان عليها الشعب قبل انقسامه إلى حاكم ومحكوم، أي قبل ظهور الدولة. فترتسم صورة مثاليّة للشعب تقفز على اختلافاته الاجتماعيّة وصراعاته على النفوذ والثروة. وهي صورة متخيّلة لا تتطابق مع الصورة الواقعيّة. ولذلك تعدّ فكرة "خيريّة الشعب" من ثوابت الشعبويّة.
وتختلف وظيفة هذه "الخيريّة" بحسب طبيعة النظام السياسي. ففي ظلّ الاستبداد يكون المشهد السياسي عند الشعبويّة مكثّفًا في شعب خيّر في مواجهة حاكم مستبدّ. وفي هذا السياق نجد في أغلب مكوّنات المعارضة في نظم الاستبداد العربي على اختلاف مرجعيّاتها السياسيّة قدرًا من الشعبويّة. فهي تدافع عن "الشعب المضطهد" سياسيًا وطبقيًّا، وتبشّر بأنّ الشعب سينهض يومًا في وجه "جلاديه" من "الحكّام العملاء". وأمّا في مرحلة الديمقراطيّة فإنّ المشهد يتكثّف عند الشعبويّة في "شعب خيّر" في مواجهة نخبة فاسدة.
• الشعبوية والديمقراطية
أشرنا إلى أنّ "خيريّة الشعب" من أهمّ ثوابت الشعبويّة. وهي خيريّة في مواجهة "حكّام ظلمة" و"سلطة غاشمة" في ظلّ الاستبداد، وفي مواجهة نخبة فاسدة في ظلّ النظام الديمقراطي. وهذا الأمر واضح جدًّا في خطاب قيس سعيّد. وهو خطاب مبني على مواجهة بين النحن والهم. نحن الخيّرون وهم الأشرار، نحن الصاحون وهم المخمورون، ونحن الأفاضل وهو الأراذل.
وكثيرًا ما يبلغ خطاب سعيّد درجة عالية من النفي فيُقصي مخالفيه من الدائرة الإنسانيّة فإذا هم حشرات وسوائم. ويبلغ الخطاب درجة قصيّة من التوتّر فيخرجهم من عالم الحياة الحيواني والنباتي فإذا هم "أعجاز نخل خاوية" لا ترى لهم من باقية. ومع ذلك فإنّ قيس سعيّد ينفي عن خطابه كلّ عنف وتقسيم وعن أدائه كلّ مناهضة للحريات العامّة والفرديّة.
لم يختلف خطاب قيس سعيّد وأداؤه قبل الانقلاب وبعده. سوى أنّه نفّذ ما كان توعّد به من إطلاق الصواريخ التي كانت على منصّاتها لتنطلق يوم 25 جويلية/ يوليو الماضي لتُطيح بما استقام من مؤسسات النظام الديمقراطي.
وبعد الانقلاب أمكن رصد ثابتين في شعبويّة قيس سعيّد. الأوّل متّصل بالأداء ويتمثّل في نقض العهد. فسعيّد حنث فيما كان أقسم عليه من احترام الدستور وصونه. والثاني في مستوى الخطاب ويتمثّل في آليّة الإسقاط فكلّ ما قام به من هدم للمؤسسات ومن تهديد لوحدة الدولة وصَمَ به خصومَه، فاتّهمهم باستهداف الدولة من الداخل والتآمر عليها من الخارج.
فشعبويّة سعيّد قامت، من ناحية، على إدانة الديمقراطيّة والاستثمار في تعثّر مسارها وتفريط منظومات الحكم المتعاقبة على السلطة منذ 2011. ووجدت تحريضًا ثمّ مساندة من قوى وظيفيّة تنكّرت لمرجعيّتها الديمقراطيّة. ومن ناحية أخرى قامت على تقديم بديل عن الديمقراطيّة تسميّه الديمقراطيّة التمثيليّة. وهي انتظام أفقي غامض. والغموض والتعميم جزء لا يتجزّأ من الخطاب الشعبوي.
وبالمقابلة الحادّة بين برنامجها وبرنامج خصومها تقدّم الشعبويّة نفسها بديلاً عن الوضع السياسي برمّته وليس شريكًا بإمكانه أن ينسج مع غيره قصّة نجاح سياسي جميلة في وطن يتّسع للجميع رغم اختلافهم.
في تجارب شعبويّة مجاورة مثلما هو عليه حال بوديموس في إسبانيا، نكون أمام شعبويّة تقبل بالديمقراطيّة وتعمل على الوصول إلى غايتها عن طريق الديمقراطيّة. أمّا قيس سعيّد فقد استعمل الديمقراطيّة للوصول إلى أعلى مؤسسات الدولة ثمّ انقلب على قواعد اللعبة (الدستور والديمقراطيّة)، بعد أن استثمر في الأزمة الماليّة الاقتصاديّة والصحيّة.
• الشعبوية والإيديولوجيا
أشرنا إلى أنّ الشعبوية مصطلح يشير إلى ظواهر متشابهة، ولكنّها تختلف باختلاف سياقها. ومن ذلك أنّ الشعبويّة في ظلّ ديمقراطيّة راسخة لا يمكنها أن تنقلب على النظام الديمقراطي، وأقصى ما يمكن أن تبلغه هو أن تفوز بدورة انتخابيّة. ولكن بسبب متانة المؤسسات الديمقراطيّة الدستورية والتعديليّة سرعان ما ينكشف زيف شعاراتها البراقة والمبسطة.
ولكن في ظلّ انتقال ديمقراطي هش وغير مكتمل مستهدف من قوى استبداد إقليميّة مضادّة ترى في الديمقراطيّة تهديدًا وجوديًّا، وفي ظلّ مؤسسات أكثر هشاشة يسهل الانقلاب على الديمقراطية. وهذا ما تمّ في المثال التونسي.
فأمكن الانفراد بالسلط وجمعها في يد الرئيس قيس سعيّد، وهو لا يتورّع عن إزاحة بقيّة العقبات منها المؤسسي ممثلاً في مؤسسة القضاء، ومنها السياسي الميداني ممثلاً في الشارع الديمقراطي الذي تمكّن في تظاهرات حاشدة متواترة من أن يكسر سرديّة سعيّد الشعبويّة ويدحض أكذوبة التفويض الشعبي. فالشعب التونسي ليس كلاًّ متجانسًا بقدر ما هو متعدّد بأحزابه ومنظماته، وأنّ ما ينظمّ حياته السياسيّة وتداول قواه السلمي على السلطة هو الدستور والقانون.
هل للشعبويّة إيديولوجيا؟
تردّد هذا السؤال في السياق التونسي، وكان البحث مدقّقًا في سيرة سعيّد السياسيّة، فلم يظفر أحد بطائل، رغم ما قيل عن علاقات سعيّد بهذا الحلف أو ذاك أو هذا المنزع الفكري والآخر.
وفي هذا الباب هناك خلط بين الجانب الإيديولوجي والعلاقة السياسيّة إقليميًّا على وجه الخصوص. ونحن في هذا أميل إلى ما أكّد عليه البروفيسور عزمي بشارة من أنّ الإيديولوجي ضامر جدًّا عند الشعبويّة. ويمكن حصر الإيديولوجيا عندها في بعدين: "خيريّة الشعب" وهذا المفهوم المتخيَّل عنه، ونخبة مشيطنة لا يمكن أن تخرج عن درك الذيلة. و"عليها أن ترحل" دون أن يعرف إلى أين. فهل يتمّ تهجيرها أم دفنها في غياهب السجون.
وبهذا الخطاب التقسيمي والإقصائي ترتبك الشعبوية أمام ما يستجدّ من أزمات. وفي الحالة التونسيّة تقف الشعبويّة المنقلبة على الدستور والديمقراطيّة عاجزة عن مواجهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة، بعد أن أحكمت العزلة على نفسها في الداخل والخارج وعلى البلاد وشركاتها التقليدية ومجالها الحيوي. ولئن بات عجزها عن مواجهة الأزمة حقيقة فإنّ مستقبل الدولة والسلم الأهلي بين يديها وهي تمسك بكلّ السلطات صار أمام خطر فعلي.