الأمر يتجاوز التعيينات إلى تركيبة الحكومة نفسها. فمكوناتها الحزبيّة التي التقت على الفخفاخ وشكّلت الحكومة هي نفسها التي اختلفت على الجملي. التعيين الأخير لن يُغيّر من طبيعة الحكومة "المحاصصيّة". والمحاصصة ليست عيبا في ذاتها، فضلا عن كونها إجراء لا يمكن تخطّيه في نظام برلماني ونظام أكبر البقايا الانتخابي.
التعيين الأخير يكشف عن هذه الطبيعة التي خفت أثرها مع تشكيل حكومة الفخفاخ ومنحها الثقة أمام البرلمان ليظهر هذه الأيّام مع ما بدا من أمل في كسر موجة الكورونا وما استدعاه ظهور الوباء من مواجهة مفروضة والاجتماع على هدف واضح بقيادة ميدانيّة يوميّة من وزارة الصحّة.
هذا الائتلاف الحكومي بدأ يكشف عن هشاشته وأنّه لم يكن التقاءً على فكرة حاولنا إقناع أنفسنا بتهيّؤ شروطها هي فكرة الإصلاح العظيمة وأنّ مزاج التفويض الشعبي يدفع إلى الخروج من توافق مع المنظومة لم يعد له ما يبرّره. وفي حقيقة الأمر لم يكن مطلوبا أكثر من الشروع في عمليّة الإصلاح وتدشين الخطوة الأولى منها على الأقلّ. وإنّ الموقف من أطراف هذا التجاذب داخل الائتلاف الحكومي (وحتّى خارجه) محكوم بعلاقتها جميعا بالديمقراطيّة وشروطها ومصداقيّتها في محاربة الفساد. ولا يخفى ما في سياقنا من وصل قويّ بين الأمرين.
ونرى في الائتلاف الحكومي ملامح لخلل يمسّ المبادئ. وهو أساس الهشاشة المشار إليها:
ـ تردّدها أمام مراكز قوى المال والأعمال المستأثرة بالثروة التي راكمتها بطرق غير مشروعة وبامتيازات تمويل وجباية وتراخيص في التصدير والتوريد غير مستحقّة. وهي تعلم أنّ المنظومة في أضعف حالاتها أمام تفويض من البرلمان يمكّن من مراسيم تشرّع لتوفير موارد مهمّة للدولة هي في أشدّ الحاجة إليها في مواجهة الموت الداهم. ولكنّ لا جرأة للحكومة إلى حدّ الأن إلاّ على الحكومة.
هذا التردّد نفسه لوحظ على إثر كلمة رئيس الجمهوريّة التي ذكر فيها أنّ "المال للشعب ولابدّ من أن يعد المال إلى أصحابه". فكان "التفسير الرئاسي" في أقلّ من 12 ساعة بردا وسلاما على لوبيبات المال والأعمال بعد أن "غروطت" بطون البعض منهم.
ـ موقف غير جدّي من مواقف مناهضة للديمقراطيّة من داخل الائتلاف الحاكم: فاعتبار تصريح نائب عن حركة الشعب في الموضوع الليبي أمرا جزئيّا يأتي ضمن اختلافات الواحد في المائة بين الائتلاف الحاكم يثير قلقا حقيقيا. لإنّ حصول خلاف حول ما يتهدّد المسار الديمقراطي من الجوار الليبي (حفتر) لا يختلف في شيء عن الاختلاف حول يتهدّد المسار من أعمال إرهابيّة فمن الشعانبي. ولا يمكن أن نكون ديمقراطيين في تونس ومساندين للدكتاتوريّة في ليبيا.
الديمقراطيّة هو المبدأ الذي اجتمعت عليه الائتلاف الحاكم ومن أجله كانت مقارعة الاستبداد وتتواصل مواجهة مشتقاته بعناونها المختلفة في المال والإعلام والثقافة...وليس ضمن الواحد في المائة من الاختلافات الطبيعيّة داخل الائتلاف الحاكم. والأصل هو أنّه لا يمكن لجهة سياسيّة أن تكون شريكا في الائتلاف الحاكم بمثل هذه المواقف المناهضة للديمقراطيّة.
ـ نظرة غير بعيدة عن الانتقائيّة في موضوع محاربة الفساد ظهرت في موضوع الكمامات ووزير الصناعة (غاضني اسم صالح بن يوسف).
فقد كانت استقالة الوزير الخطوة الدنيا الأولى سواء بادر بها أو دُعي إليها، قبل الإجراءات المطلوب اتخادها. ولم يحدث شيء من هذا. بل قام دفاعٌ غير متوازن من رئيس الحكومة عندما نعت ما أثير حول الموضوع بالتخلويض. وتبعه تجرؤ من الوزير بالقول إنّه أمام حالة الحرب نحطوا القانون على شيرة. ولم يقف أحد عند هذا التصريح، ثمّ تتالت التبريرات واعتبر ما أتاه الوزير " إخلالات لا تضرّ بالمصلحة العامّة". رغم أنّه لا يخرج عن التعريف القانوني للفساد كما ورد في الفصل الثاني من قانون حماية المبلّغين. فشبهة الفساد حاصلة بقطع النظر عن نوايا الوزير (أحمد صواب).
فالهشاشة كما نراها ليست في التجاذبات السياسيّة الحزبيّة المـألوفة وإنّما في علاقة بالمبادئ المؤسسة. ومنها الديمقراطيّة، ومحاربة الفساد، والعدل الاجتماعي بإعادة النظر تدريجيّا في الثروة والملكيّة والقضاء على الفقر.
نعيش أجواء شبيهة بما حدث في محطّات سابقة في 2011 وغيرها كانت فيها القديمة في أضعف حالاتها ومضطرّة للبس السفساري، ولكنّها تجد طوق نجاتها في مكوّنات الجديدة (خلافاتها وقابليتها للاختراق).
اعتبارنا المنظومة في أضعف حالاتها معطى سياسيا بعد انتخابات 2019 وتشكيل حكومة الفخفاخ لا يكاد يصمد أمام ما نرى من أداء...ويبدو الاختراق سيّد الموقف...وأنّ هذه المرحلة لن تمرّ بدون خسائر أخلاقيّة ستكون الأفدح لأنّها ستطول من وثق في مصداقيّتهم في مواضيع الديمقراطيّة ومحاربة الفساد والعدل الاجتماعي…
لكنّ الأهمّ هو أنّ المبدأ يبقى قائما وإن قصّر دونه المحاولون لأسباب عديدة...مهمّة محاربة الفساد والدعوة إلى الإصلاح لا تسقط حتّى إذا فشل أصحاب النوايا الصادقة.