هناك حالة انتظار مركزة على الشارع الاجتماعي أمام حالة الانهيار الشاملة التي تعرفها البلاد ويستوي في حالة الانتظار هذه الشارع الديمقراطي المطوق وسلطة الانقلاب العاجزة. فالمدافعون عن الديمقراطيّة وهم "يحذّرون" من انفجار اجتماعي قد يأتي على الأخضر واليابس يشيرون في حقيقة الأمر إلى العجز عن تجاوز توازن الضعف بينهم وبين الانقلاب الذي حوّل الأزمة إلى نكبة وطنية.. ومن ثم ينتظرون أن يكون دور الشارع الاجتماعي ترجيح الكفّة لفائدة استعادة الديمقراطيّة مثلما .
في حين تتوقّى منظومة الانقلاب الاحتجاج الاجتماعي. وقد أدركت أنّ مراكمة السلطة، كلّ السلطة، بين يديها ضاعف من فشلها وأثبت عجزها عن إدارة البلد والخروج إلى "ما بعد الانقلاب"، بعد سنة ونصف على الانقلاب. وتدرك أكثر أنّ ما يمدّ في انقلابها هو أجهزة الدولة الصلبة. وهي ليست واثقة من تداعيات الزجّ بهذه الأجهزة في مواجهة الناس ومطالبهم المعيشيّة حين يدخل الشارع الاجتماعي على الخطّ.
1 - شارعان متوازيان
الحديث عن انتظار الشارع الاجتماعي، لا يعني أنّ هذا الشارع غائب بقدر ما ينبّه إلى أنّ حركته هذه الأيّام موازية لحركة الشارع الديمقراطي. إذ تشهد البلاد احتجاجات اجتماعية ومنها حول "الحرقة" المتصاعدة نحو ضفّة المتوسّط الشماليّة، . ففي جرجيس خرجت كلّ المدينة من أجل أبنائها المفقودين لتتعرّف على هويّة من أخرج الموج جثثهم إلى الشواطئ، وتحتجّ على دفنهم في مقبرة الغرباء قبل التثبّت من هويّتهم. وهي المقبرة التي لم يسأل عمّن أنشأها ولا عن ملابسات فتحها.
ولئن كانت الحرقة ظاهرة سابقة على الثورة ومتواصلة بعدها، فإنّها عرفت مع الانقلاب منعرجا فعليّا يرسّخ تونس مجالا طاردا باتجاه ضفّة المتوسّط الشماليّة، وقد أريد لها أن تكون محطة نهائية لأفواج الأفارقة المهاجرين. وكانت السلطات الإيطاليّة أفادت بأنّ ما يقارب الخمسة عشر ألف "حارق" وصلوا من تونس إلى إيطاليا منذ شهر جانفي 2022، لتعرف الهجرة السريّة ارتفاعا حادّا بالقياس إلى السنة الفارطة. ومن الصعب ألاّ يكون هناك صلة بين سياسات منظومة الانقلاب من ناحية وحالة الإفلاس التي بلغتها الدولة وشبح المجاعة الذي يخيّم على البلاد وتدهور صورة تونس في السوق الماليّة. ولم يَعُد مجديا إحالة فشل منظومة الانقلاب الشامل على "العشريّة السوداء".
تَحرَّكَ الشارعان الديمقراطي والاجتماعي منفصلين رغم وحدة الدوافع والأهداف. ولم يكن توازيهما أمرا جديدا فقد كانت محطّاته واضحة طيلة عشريّة الانتقال. ومن مظاهره تواصل الاحتجاجات الاجتماعيّة رغم اختلاف منظومات الحكم. فكانت الحكومات المتتالية تفسّره بالإحالة على من سبقها. يفسّره الصف الثوري بدور المنظومة القديمة بواسطة لوبياتها وأذرعها الإعلاميّة والمنظّماتيّة وبعض القوى الوظيفيّة. وقد أتاحت قيادة النظام القديم مرحلة ما بين 14 جانفي 2011 وانتخابات 23 أكتوبر 2011 التأسيسيّة باسم إنقاذ الدولة القيام بترتيبات في الدولة والإدارة انعكست على مسار التأسيس وأثّرت فيما أعقبه من مراحل.
حتى قيل: كانت انتخابات 23 أكتوبر بشروط بالقديم (يكفي الانتباه إلى تعريض مجلس حماية الثورة بهيأة بن عاشور) .
ويفسّره القديم العائد مع انتخابات 2014 بتركة الترويكا وتواطؤها مع الإرهاب المستهدف للدولة ولأهم مواردها الاقتصاديّة (السياحة) وتعطيل كل مصالحة اقتصاديّة تدعم الاستثمار والتوازنات الماليّة. وكان القديم الفائز بالرئاسات الثلاث عَمِل جاهدا، في سنوات حكمه الخمس، على إجهاض مسار العدالة الانتقاليّة باعتباره قاعدة التسوية التاريخيّة المطلوبة بين نمطين اجتماعين متواجهيْن ومنوالين في الحكم أبانت عنهما انتخابات 2014. كانت غايته مصالحة اقتصاديّة بشروطه يكافئ بها من أوصلوه إلى الحكم في 2014 وليس عدالة انتقاليّة ترأب ما يشق البلاد من صدوع.
الشارع الديمقراطي جزء من الشارع السياسي، وقد برز مصطلح الشارع الديمقراطي مع الانقلاب، فكان من الطبيعي ألاّ يبرز من الشارع السياسي في مواجهة الانقلاب إلاّ المدافعون عن دستور الثورة والديمقراطيّة. وفي مسار مقاومة الانقلاب وما عرفه من مراحل، صار الشارع الديمقراطي مرادفا للشارع السياسي سيّما وأنّ الانقلاب لا شارع له. فيكون مرادف "انقلاب/ديمقراطيّة" هو "منظومة انقلاب/ شارع ديمقراطي".
2 - حقيقة الانقسام مجدّدا
هذه التباينات في الحدود بين الشوارع تشير جميعها إلى حقيقة الانقسام الذي تعرفه البلاد. وهو انقسام مضاعف هووي واجتماعي. وإنّ من يخطئ في فهم الانقسام وأثره على بنية المجتمع والدولة سيخطئ حتما في فهم ما عاشته البلاد منذ 2011. بل قد لا يتبيّن بما يلزم من الوضوح ما عرفته منذ عهود بعيدة منها ما يتصل بنشأة الدولة التونسيّة وملابساتها. ولذلك أصبح معطى الانقسام أشبه بـ"نموذج تفسير" ومفتاح يغري حامله بالقدرة على فتح جلّ الأقفال. وهذا الانقسام سليل عجز الدولة عن تغطية كلّ مجالها السياسي والاجتماعي. ويظهر منه انقسام ساحل وداخل، ومركز وهامش، ومدني وأهلي. والهامش ليس حيّزا جغرافيّا بقدر ما هو "مستوى معيشي" مجاور للأحياء المرفّهة في المدن والحواضر. نجده في منزل بوزيّان كما نجده في ضاحية المرسى (حي بوسلسلة والبحر الأزرق).
انعكس الانقسام على الاقتصاد والنخبة والسياسة. فكان الاقتصاد الموازي حقيقة ظاهرة لا يمكن لخبير الاقتصاد وللباحث في الاقتصاد السياسي أن يغفل عنها. فإذا تحدّث عن الاقتصاد في تونس دون الانطلاق من معطى انقسامه إلى رسمي ومواز لا يمكنه أن يظفر بتشخيص دقيق لأزمته الحاليّة ولا إلى حلّ ملائم لتجاوزها. وبالقياس تبدو ملاحظة انقسام البلاد إلى مجال سياسي رسمي ومجال سياسي هامشي غائبة رغم أنّ الثورة التي أطاحت بنظام بن علي أطلقها المجال السياسي الموازي بانتفاض الهامش المواطني.
وانعكس الانقسام على الثقافة ومنظومة القيم. فالدولة التي عجزت عن تغطية كلّ مجالها واكتفت بتغطية جزء منه (المجتمع المدني) وتركت بقيّة المجال للعراء ( الداخل أو المجتمع الأهلي) بقيت جهوية ولم تظفر بالصفة الوطنية. ويحدث أن تتوتّر علاقة الدولة مع "المجتمع المدني" في المركز (أحداث 26 جانفي 1978) إذا لم يكن من الهامش احتجاج أو تهديد. وإذا ما تحرّك الهامش بمطالبه الاجتماعيّة ـ وهي سياسيّة في جوهرها ـ وجدت المؤازرة الكاملة من "مجتمعها المدني". وهذا ما شهدناه في موقف الاتحاد العام التونسي للشغل في الأيّام الأولى للثورة، وفي موقف الرباعي الراعي للحوار. والحوار الوطني بقيادة الرباعي كان في نتيجته السياسية انقلابا على "مسار التأسيس" والخروج منه إلى مرحلة "انتقال ديمقراطي" في 2013. وكانت نتيجة الحوار الوطني السياسيّة المباشرة عودة المنظومة القديمة لتتربّع خمس سنوات (من 2014 إلى 2019 ) على الرئاسات الثلاث.
المرحلتان البورقيبيّة والنوفمبريّة تنطقان بهذه العلاقة بين الدولة ومجتمعها المدني، وبهذا الدور الموكل للمجتمع المدني وللمنظّمة الشغيلة خاصّة رغم اختلاف السياقات وعناوين الأدوار. واليوم، وفي ظلّ الانقلاب، يُعاد الاتحاد العام التونسي للشغل إلى "موقعه النوفمبري" في إطار ترتيبات منظومة الانقلاب للمرحلة القادمة، ولا أفق للأزمة الماليّة الاقتصاديّة وتداعياتها الاجتماعية الخطيرة
3 - جدل المجاليْن السياسيَّيْن
حقيقة الانقسام ووجود مجالين سياسيين يفسّران مفردات المشهد السياسي الحالي وتفاعلاتها. فإذا كان الانقسام الاجتماعي سببا في الثورة ونجاحها في كسر نظام الاستبداد فإنّ الانقسام الهووي (إيديولوجي بالأساس) كان العامل الرئيسي في إجهاض مشروع تأسيس الحريّة ومقدّمة الانقلاب على مسار بناء الديمقراطيّة. والمحصّلة أن تاريخ الانتقال الديمقراطي في حقيقته لم يكن سوى تاريخَ محاولات الانقلاب على هذا الانتقال.
وفي هذا السياق، لم تقبل المنظومة القديمة بسقف الديمقراطيّة. وشجّعها تعثّر مسار بنائها والمتنكّرون للديمقراطيّة من الوظيفيين القدامى والجدد على الانقلاب. وآزروها في استهداف دستور الثورة والإطاحة بالنظام الديمقراطي الناشئ في الذكرى 64 لإعلان الجمهوريّة.
تاريخ الانتفاض في بلادنا كان من الهامش، وكان مأمولا أن ينجح المسار الثوري في 2011 في توحيد البلاد بإعادة بناء الدولة لتغطّي كلّ مجالها، وذلك بمهمّتين متكاملتين: رأب الصدع الهووي ببناء مشترك وطني ورأب الصدع الاجتماعي بتنمية محليّة مستدامة وشاملة يكون من شروطها الخروج من منوال الريع الموروث والمؤسس على نظام الرخص والتمييز الجهوي ورأسماليّة زبونيّة هي صورة من "رأسماليّة دولة" تابعة.
وفي كل ما عرفته بلادنا من أزمات كان الحلّ يأتي من الهامش. وكانت نخبة المركز هي من يضيّع هذا الحلّ بإعادة إنتاج الأزمة من خلال رؤيتها للدولة والسياسة. كان هذا في ثورة 1864 الوطنيّة، وهي الثورة التي عاصرت ثورات شبيهة في أوروبا تمكّنت من أن تحقّق خطوات متقدّمة في بناء الديمقراطيّة والتنمية والتكنولوجيا والتقدّم الذهني والنهوض الاجتماعي. وكان أيضا في ثورة الخبز في 1984 التي انطلقت من أعماق الجنوب المفقّر. ولكنّ ضعف الحركة السياسيّة والحقوقيّة أتاح للنظام المأزوم أن يملي الحلّ رغم أنّه هو المشكل. وتكرّر هذا في 1987 نتيجة أزمة النظام الهيكليّة وانعكاسات برنامج الإصلاح الهيكلي (أزمة 1986 الماليّة الاقتصاديّة). فكان يمكن للمواجهة التي انحصرت في المجال السياسي الرسمي بين الإسلاميين ونظام بورقيبة رغم الامتداد الشعبي للإسلاميين وحضورهم القوي في الهامش المفقّر أن تُحْدث المنعطف في تاريخ الدولة إلاّ أنّ افتقاد الإسلاميين للرؤية التي تربط بين النضال السياسي والمضمون الديمقراطي والبعد المواطني للكفاح الاجتماعي) سهّل تذرير تضحيات المسار الكفاحي الذي امتدّ من منتصف مارس 1987 إلى 7 نوفمبر من السنة نفسها. ومكّن انقسام الطبقة السياسية النظام المتهاوي من أن يفرض عنوان المعركة (حرب على تنظيم إرهابي) ويجدّد نفسه بمكوّنات إيدبولوجيّة وظيفيّة من "اليمين الماركسي" أمدّت بن علي بـ"إيديولوجية حكم" حتّى تباهى بأنّه "أنقذ بورقيبة من بورقيبة".
4 - الحلّ يأتي من الهامش؟
انتهت الحركة السياسية والحقوقية المطالبة بالديمقراطيّة قبل الثورة إلى ما يشبه النقيضة السياسيّة. إذ كان النضال السياسي مستحيلا بدون الأدنى من "مربعات" الحريّة، ولكن توفير هذه المساحة لا يتحقّفق إلاّ بالنضال السياسي. وكانت حركة 18 أكتوبر 2005 الرائدة محاولة للخروج من المأزق وكسر النقيضة بافتكاك مربّع حريّة تقف عليه المعارضة، غير أنّ توتّرها بين المطالبة (العفو التشريعي العام) والمقاومة ( لا يصلُح ولا يصلَح) مزّق ما تمّ تدبيجه من ورقات أوّليّة حول المرأة والدولة والديمقراطيّة. وكانت أنتخابات 2009 الرئاسيّة سياقا كافيا لتمزيق هذه الورقات حين سعى بعض رموز الحركة إلى تصريف رصيدها المقاوم في رهانات فئوية وشخصية.
مع ثورة الحريّة والكرامة توفّرت شروط الاختيار الحر بعد كسر بنية نظام الاستبداد الثلاثيّة المانعة لكل انتخابات حرّة وشفافة. وكان الانتفاض المواطني يلوّح من الهامش المفقّر للطبقة السياسيّة في المجال السياسي الرسمي بالحل. ومازال لقاء ثوّار المجال السياسي الرسمي بناشطي المجال السياسي الرسمي من ممثلي الأحزاب والعائلات السياسيّة الكبرى في القصبة 1 و2 لحظة غامضة. فلم يُطرح بجديّة السؤال عن سبب اتجاه الثوّار إلى المركز. فهل اقتنعوا بترجمة شعارهم "عصابة السرّاق" من قبل الطبقة السياسيّة التقليديّة في المجال السياسي الرسمي إلى "الشعب يريد إسقاط النظام"؟. وهو الشعار الذي رفع في العاصمة يوم هروب بن علي.
اتجاه الثوّار إلى القصبة بما تحمله من رمزيّة الحكم واستمراره عبر قرون يشير إلى أنّ الهامش بدوره يعتقد في أنّ الحلّ مازال عند الدولة (في المركز). وأنّ طرد عصابة السرّاق منها سيغيّر من سلوكها. ولكنّ "السرقة" في حقيقتها حالة تنتجها بنية الدولة. ومن أسباب ثبات هذه البنية طبيعتها المركزيّة.
من هذه الزاوية هل يكون أخطأوا وجهتهم. ليس في طرح السؤال مزايدة عليهم فقد رفعوا سقفا للحريّات معمّدا بدماء رفاقهم. ولكنّ السياق يسمح بمساءلة العقل الجمعي في نوع من "الوعي المابعدي".
توجّه الثوّار نحو المركز تلمّسا للحلّ، هو نفسه توجّه أحزاب تنتمي إلى الثورة بمطلب تأشيرة إلى وزارة الداخليّة بعد هروب بن علي، وغير بعيد منه تقدّم خصوم الانقلاب بمطالب تراخيص للوقفات الاحتجاجيّة إلى وزارة داخليّة الانقلاب. ولا شيء يبرّره سوى اعتبار المنقلب خارجا عن الدولة، وأن المعارضين هم الدولة. ولكن هذا لا يخرج عن "السجال السياسي" الذي لا يغير ميزان القوى لفائدة الديمقراطية.
وإنّ تقييما رصينا للحراك المواطني الذي انطلق في يوم 18 سبتمبر في مواجهة الانقلاب ويتواصل مع جبهة الخلاص الوطني ُيمكّن من ملاحظة الفرق بين العنوان (مقاومة) والأسلوب (معارضة). وإنّ الهدف الأول الذي يرتسم لحظة اعتبار ما قام به قيس سعيّد انقلابا هو تحرير المؤسسة الأصليّة في النظام الديمقراطي الجديد. ولا يمكن لعنوان مقاوم في تلك اللحظة أن ينزل تحت هذه المهمة.
كان الحلّ دائما يأتي من الهامش، ولكنّ حالة الانقسام وفشل سنوات الانتقال العشر في توحيد المجال السياسي يمنعان تصريف الحل لفائدة الديمقراطيّة ومسارها.
والظاهرة اللافتة في مشهدنا السياسي بمركزه وهامشه هو أنّ الانقسام الاجتماعي يكون مبادرا بالحلّ في شكل انتفاض مواطني غالبا، ولكن الانقسام الهووي يكون مانعا من تنزيله بسبب الخلافات المستحكمة داخل الطبقة السياسيّة في المركز وعجزها عن إيجاد مشترك بينها.
وتأكّد هذا في حالة الانقلاب بأن أصبح الاختلاف حول شروط الديمقراطية اختلافا حول مبدأ الديمقراطية نفسه. فكان "أخطاء 24" مبررا كافيا لـ"خطيئة 25" رغم تحولها إلى جريمة نكبت البلاد بتدميرها المدمّر.
5 - ترتيبات ومرحلة انتقالية في الأفق
ولذلك فإنّه لا معنى لانتظار الشارع الاجتماعي إلاّ بالاستعداد له بالأدنى من التوافقات الضروريّة والأدنى الديمقراطي في مواجهة الانقلاب. ويأتي هذا في إطار مهمة دعا إليها مواطنون ضدّ الانقلاب وسموها بـ"توحيد المجال السياسي".
ولا مؤشّر على هذا التوجه سوى ما قد يكون من تواصل بين الجبهة والخماسي وسائر الطيف الديمقراطي والمنظماتي والشخصيات الوطنية وما بقي من عقلاء في هذا البلد. وتمثّل هذه الخطوة مستوى من مستويات الاستعدادا لما سيكون من ترتيبات مع منظومة الانقلاب إذا قرّرت التخلّي عن واجهته أمام احتداد الأزمة وتوسّع الاحتجاجات الاجتماعية وقضاء حاجتها منه في تجريف شروط الديمقراطيّة. رغم أنّ من عجائب هذا الانقلاب أنّه مثلما جرّف شروط الديمقراطية جرّف جانبا من عوائقها (النقابات). وفي الحالين أوصل البلاد إلى الدرجة الصفر للسيادة، وهي الحال التي يصاغ فيها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي دون أن تكون هناك ردّة الفعل المطلوبة على اتفاق بهذه الخطورة. وهو اتفاق يباركه من صدعوا رؤوسنا بالأمس باتهام الحكومات السابقة بالاستسلام لإملاءات "الرأسمالية المتوحّشة"، ولا يجد من استهدفهم الانقلاب حيلةً إلى ردّه وتوفير الشروط الوطنية لعقده في سياق برنامج إصلاح سياسي واقتصادي.
وضع البلاد الكارثي يدفع إلى مرحلة انتقالية غير معلومة المرجعية الدستورية. . فلكلّ مرجعيّته (دستور 2014 عند أنصار الديمقراطية، تنقيح دستور سعيد أو استدعاء دستور بلعيد عند أنصار المنظومة القديمة وأصدقاء فرنسا).
وإنّ شرعية الوضع السياسي المنتظر يحددها ثلاثة: الديمقراطية والتشاركيّة والإصلاح . وهو ما سيجعل من الترتيبات القادمة انتصارا سياسيا للديمقراطية على الانقلاب بقطع النظر عن الوجوه التي ستطالعنا. وإن شرعية من سيتولى قيادة المرحلة في القدرة على مواجهة الأزمة المالية الاقتصادية الاجتماعية والوصول بالبلاد إلى انتخابات ديمقراطية. وقد تمتد هذه المرحلة التشاركية على خمس سنوات (بل يفضّل ذلك). فتجارب الانتقال إلى الديمقراطية تثبت أنّ التسريع بالانتخابات بعد سقوط أنظمة الاستبداد يفضي حتما إلى انقسام القوى المحسوبة على الثورة لصالح القديم. وهذا ما عشناه في 2011. وهذا القانون يسري على كل المراحل الانتقالية وكل ما يبنى من ترتيبات للخروج من أزمات الانتقال.
نتيجة جانبية، ولكنها مهمة وتتمثّل في أنّه لم يكن بوسع الانقلاب شطب ما راكمته عشر سنوات من التمرين الديمقراطي، رغم استهدافه القضاء ومؤسسات دستورية وتعديلية عديدة. وفي كلمة: استعصاء هدم سقف الحريات وإن كان هناك إرادة تحجيم منهجي للحريات. وهذا معطى مهم سيجعل الانقلاب جزءا من الانتقال الديمقراطي وحادث تعثّر فيه، ومن قوس الانقلاب فترة "انتقال معطّل".
فالاتجاه العام الذي ارتسم مع ثورة 2011 هو "من أجل بناء الديمقراطية" وعلى هذا دلائل مستجدّة محليا وإقليميا ودوليا.