لم يغفل أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل في كلمته في الاجتماع النقابي بتونس العاصمة يوم 11 جوان/ يونيو 2022 عن تأكيد تمايزه عن جبهة الخلاص الوطني فيما يشبه التبرّؤ من سقفها السياسي الذي رسمته باستكمال مهمّة إسقاط الانقلاب والإعداد الوطني للبديل الديمقراطي. وهو بذلك يسعى جاهدًا لرسم سقف موازٍ لم تتوضّح مغادرةُ أصحابه سقف الانقلاب من عدمها رغم الدعوة إلى الإضراب العام يوم 16 جوان/ يونيو 2022.
وفي هذا السياق يقوم سؤال حول حقيقة تعدّد السقوف في مواجهة الانقلاب. وهل يعكس تعدّد المواقف وتباينها وجودًا فعليًا لأكثر من سقف في هذه المواجهة؟
الثالث المرفوع من السقوف
يكاد المشهد السياسي والاجتماعي يتلخّص هذه الأيّام في موقفيْ الاتحاد والجبهة من الانقلاب. وما يبدو من مواقف متعدّدة هو في حقيقته مجرّد تنويعات لا تخرج عن هذين السقفين. من خلالهما تتبيّن صورةٌ واضحة ومتكاملة عن المواقف والمواقع والسقوف.
ولقد كان نور الدين الطبوبي هاجم في تصريح صحفي جبهة الخلاص الوطني منذ الإعلان عن نفسها في أوّل ندوة صحفيّة عقدتها يوم 26 أفريل/ نيسان 2022. واعتبر أنّ « الجبهة فشلت قبل أن تنطلق »، واستهدف رئيسها في شخصه حين شدّد على أنّها في حقيقتها « تملّقٌ لحركة النهضة طمعًا في ما تبقّى من قاعدتها الشعبيّة ». فموقف الاتحاد الرسمي، مساند للانقلاب بقوّة، وكان ذلك في بيانه يوم 26 جويلية/ يوليو 2021 يومًا بعد إعلان الإجراءات الاستثنائيّة، فالانقلاب على الدستور والديمقراطيّة يجعل من 25 جويلية/ يوليو عندها لحظة وطنيّة. ومازالت المركزيّة النقابيّة عند موقفها هذا حتّى وهي تعلن عن الإضراب العام.
وكان ردّ رئيس الجبهة أحمد نجيب الشابي يومها بأنّه لا يوجد خطّ ثالث، إنّما هما خطّان: الانقلاب والقوى الديمقراطيّة المناهضة للانقلاب. وذلك في إشارة إلى سعي نور الدين الطبوبي، في تصريحه المذكور، إلى محاولة الإقناع بموقف ثالث بين الانقلاب والشارع الديمقراطي يمثّله الاتحاد. وكان منتظرًا من الجبهة وقياداتها - وقد ذُكرت في كلمة الأمين العام وفي تدخّلات نائبه في اليومين الأخيرين - أن يكون لها ردّ على الطبوبي ورفاقه، ترسم فيه الحدود وتشرح فيه وجهة نظرها في المستجدّات الأخيرة في جمل سياسية واضحة على ضوء مرجعيّتها المتمثّلة في دستور 2014 دستور الثورة، وتفصيل العنوان السياسي الذي رفعته لحظة ظهورها: إسقاط الانقلاب والمساهمة من موقع متقدّم في إعداد البديل الديمقراطي مع كلّ أنصار الديمقراطيّة في الأحزاب والمنظّمات.
مازلنا إلى حدّ الآن أمام سقفين: سقف الانقلاب وسقف الشارع الديمقراطي المدافع عن الدستور والديمقراطيّة. وحتّى من رفض الانقلاب منذ لحظته الأولى ومازال يبحث عن منزلة وسطى مستحيلة بين السقفين، لن يكون موقعه إلاّ ضمن سقف الشارع الديمقراطي إذا هو تمسّك بالدفاع عن الديمقراطيّة ومرجعيّة دستور الثورة، أو فهو قابع تحت سقف الانقلاب إذا استمرّ على غموض موقفه مِن استهداف الانقلاب للدستور والديمقراطيّة ومن مسار بناء الديمقراطيّة وتأسيس الحريّة. وهذا شأن القوى الوظيفيّة بمختلف تعبيراتها المختلفة.
منعرج الدعوة إلى الإضراب العام
تأتي دعوة المركزيّة النقابيّة إلى الإضراب، في سياق مازال يلفّه الغموض. ولكنّه لا يخرج في كلّ الأحوال عن محدّدين هما ما رشح من استهداف الانقلاب للمنظّمة الشغيلة بعد رفضها المشاركة في ما سُمّي بالحوار الوطني بلجنتيْه القانونيّة والاقتصاديّة الاجتماعيّة. ورفضها الإمضاء على ما قيل إنّها توصيات صندوق النقد الدولي والجهات المانحة في إطار إصلاحات موجَّهة تقتضيها مواجهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة المتفاقمة. وهي "إصلاحات" تتعلّق بكتلة الأجور وبالمؤسسات العموميّة وبرفع الدعم وخفض الأجور، وتمثّل في نظر الجهات المانحة، إجراءات لا غنى عنها في مواجهة التضخّم ومشاكل المديونيّة وارتفاع نسب البطالة والعجز في الميزانيّة.
وهذه "الوصفة الإصلاحيّة" تأتي في إطار عزلة حكومة قيس سعيّد وإصرار الشريك التقليدي على قصر تعامله الرسمي مع حكومة ديمقراطيّة ممثلة لمؤسسات تشريعية وتنفيذية منتخبة. وعلى حجب القروض والمساعدات الماليّة إلاّ ما كان منها مخصّصًا للحالات الاجتماعيّة الملحّة. مما يجعل من هذه الوصفة أقرب إلى الإملاء غير القابل للتفاوض. وهذا في جانب منه موقف من الانقلاب ومن مسار سعيّد نحو إرساء حكم فردي شاذّ.
وتدرك المركزيّة النقابيّة أنّ دعوتها إلى الإضراب ورفضها الإمضاء على وصفة الإصلاحات يجعلانها في مواجهة مباشرة مع المانحين ومع جانب من شركاء تونس التقليديين. لذلك تعمد إلى إعطاء عنوان محلّي لهذه المواجهة من خلال رفع درجة التوتّر مع حكومة بودن غير الشرعيّة. وفي هذا السياق، يأتي إقرار الإضراب العام. والدافع إليه من وجهة نظر الاتحاد الردّ على " تعمّد الحكومة ضرب مبدأ التفاوض والتنصّل من تطبيق الاتفاقيات المبرمة وعدم استعدادها لإصلاح المؤسسة العموميّة ".
الدعوة إلى الإضراب أربكت بعض الترتيبات ومنها التي تسعى إلى ألاّ تكون إزاحة المنقلب مقدّمة لسقوط الانقلاب. والاتحاد المصرّ على البقاء تحت سقف 25 جويلية/ يوليو، معنيّ بهذه الترتيبات. فالدعوة إلى الإضراب تضعه في مواجهة سعيّد وفي مواجهة الجهات المانحة ومؤسساتها الماليّة العالميّة برفض الإمضاء على حزمة الإصلاحات. وهذان العاملان كفيلان بأن يجعلا من المنظّمة قريبة موضوعيا من جبهة الخلاص، غير أنّ موقفًا داخل المركزيّة النقابيّة مقابلًا لموقف الأمين العام، يصرّ على ما يبدو على معادلة مستحيلة، تتمثّل في رفض الإمضاء على الإصلاحات والدعوة إلى الإضراب العام، من ناحية، وتأكيد التمايز عن جبهة الخلاص الوطني لوجود النهضة - أهمّ خصوم الانقلاب - فيها، من ناحية أخرى.
في الاجتماع العام الأخير، سرَد الأمين العام أسماء مؤسسي العمل النقابي وزعمائه منطلقًا من محمد علي الحامي وحشّاد مرورًا بأحمد التليلي والحبيب عاشور. ومع كلّ اسم، كانت المقاطعة بتصفيق الحضور، وممّا لوحظ أنّ اسم الحبيب عاشور حظي بتصفيق أقوى وأدوم!!
إلغاء الإضراب أو تأجيله سيكون انتصارًا للتيار الوظيفي المعادي للديمقراطيّة داخل الاتحاد، وارتهان منظّمة الشغيلة للانقلاب وربط مصيرها بحركته العبثيّة، إلى جانب انزواء لـ"التيّار العاشوري" ممثلًا في الأمين العام نور الدين الطبوبي. في حين سيكون تنفيذ الإضراب خطوة أولى في خروج الاتحاد من تحت سقف 25 جويلية/ يوليو وتوسع الشرخ داخل المكتب التنفيذي، وتطوّره إلى ما يشبه الانشقاق، وستكون التعدديّة النقابيّة المعطى الأهمّ في مرحلة ما بعد الانقلاب.
مرجعيّة السقف أهمُّ من السقف
منذ تشكّل جبهة الخلاص الوطني، بل ومع المؤشرات الأولى على ظهورها تتويجا لتوسّع حركة الشارع الديمقراطي ومطلبه الجذري بإسقاط الانقلاب واستعادة المؤسسات الدستوريّة الشرعيّة، دُفع الاتّحاد إلى أن يكون مركز ثُقلٍَ مقابلًا للشارع الديمقراطي، وسقفًا ثانيًا دُعيت إليه أطياف الوظيفيين من المتنكّرين للديمقراطيّة ومن الفاشيّة ومن بقايا بوليس بن علي السياسي. وسبق بروزَ هذا القطب زياراتٌ مكوكيّة للسفير الفرنسي إلى مقرّ الاتحاد. لذلك هناك من يذهب إلى أنّ قرار الإضراب العام لا يخرج عن توجّه سياسي يرى في ثنائيّة انقلاب/ديمقراطيّة التي رسّخها الشارع الديمقراطي خطرًا على ما يمكن أن يُتيحه الانقلاب للوبيات "السيستام" من تحصين لمكاسبها القديمة والمستجدّة.
ومن الواضح أنّ للاتحاد أكثر من موقف بالرغم من كونه لم يغادر سقف الانقلاب. فكلمة الأمين العام في الاجتماع العام الأخير بالعاصمة سياسيّة بامتياز، سواء في هجومه على سعيّد الذي أصبح الحاكم بأمره رغم كونه "بلا سيرة سياسيّة"، أو في استهدافه لحكومة بودن غير الشرعيّة وفريقها من النكرات فاقدي الكفاءة ومجهوليّ الهويّة السياسيّة.
في حين كان موقف نائبه والناطق الرسمي باسم الاتحاد سامي الطاهري، أميل إلى إلغاء قرار الإضراب بتأكيده على أنّ الإضراب غير سياسي، وتشديده على ألاّ يُغلق باب الحوار. وهو في هذا يصدر عن موقف حزبي يبدو صورة من موقف اليسار الوظيفي الذي انتهى إلى اعتبار الديمقراطيّة تهديدًا وجوديًّا. لذلك كان أبعد في استهدافه لجبهة الخلاص فتنبّأ بأنّها « ستعمّق أزمة تونس وتدفعها إلى الاحتراب الأهلي والانقسام والدولة الموازية ». وهو نفسه خطاب سعيّد قبل الانقلاب وبعده، وخطاب المنظومة القديمة في مواجهة مسار التأسيس وخطابها بعد الانقلاب وهي "تكتشف" شخصيّة الرئيس في سياق انتخابات 2019 التي اعتُبرت جولةً سياسيّة لفائدة القوى المحسوبة على الثورة.
وفي كلّ الأحوال، فإنّ إعلان الإضراب العام في ظاهره موقف اجتماعي، وفي أساسه ورقة سياسيّة في سياق مرحلة دقيقة في مسار الانقلاب وصراعه المفتوح مع الشارع الديمقراطي. وهي ورقة غير بعيدة عن السياسة الفرنسيّة في تونس. ففرنسا التي ليس لها حزب يمثّلها صراحة، مثلما كان للحزب الشيوعي الفرنسي فرعه في تونس قبل أن "يَتَتَوْنَسَ" في منتصف ثلاثينيّات القرن الماضي ليحمل اسم الحزب الشيوعي التونسي، لها في المشهد الحزبي ومنه بعضًا من مكونات الخماسي كآفاق والتكتّل والتيّار من يتقاطع موضوعيًّا وعمليا مع سياساتها في تونس وفي موقفها المناهض لبناء الديمقراطيّة وتأسيس الحريّة.
أكدنا في أكثر من مناسبة بأنّ تاريخ الانتقال الديمقراطي هو في حقيقته تاريخ محاولات الانقلاب على الانتقال نفسه. ومثلما لم تكن فرنسا بعيدة عن إجهاض عمليّة التأسيس ولم تسلم من الاتهام بدور لها ممكن في عمليّتي الاغتيال، كانت في الآن نفسه من الجهات الراعية دوليًّا للحوار الوطني بعد أن فشل في استنساخ نموذج السيسي الدموي الانقلابي في تونس. وهي من نزلت بكلّ ثقلها ليُمنح الرباعي الراعي للحوار جائزة نوبل للسلام.
تحوَّل موقف فرنسا من الانقلاب تدريجيًّا وذلك تحت تأثير ما يجري من ترتيبات دوليّة تمتدّ من حوض المتوسّط إلى وسط آسيا، ولكنّه بقي مراهنًا على القوى المناهضة للديمقراطيّة والمواطنة. وهي قوى تراهن فرنسا على وجودها في داخل الانقلاب وفيما يصنع في محيطه من جبهات في مواجهة جبهة الشارع الديمقراطي ورافده المواطني "مواطنون ضدّ الانقلاب"، مع عدم اليأس من اختراقها والعمل على جرّها خارج مرجعيّة دستور الثورة والدفاع عن استعادة المؤسسات الشرعيّة المنتخبة. وهو ما يدعو الجبهة إلى برنامج مفصّل يقود البلاد إلى الخروج من أزمتها المركبّة بعد إسقاط الانقلاب وغلق قوسه، ويفسح المجال للتقدّم نحو استئناف المسار الديمقراطيّ واستكمال بناء المؤسسات الشرعيّة الديمقراطيّة.