الانقلاب، في عُرف الثقافة الديمقراطية والحداثة السياسية، ليس وجهة نظر حتّى يكون موضوعا للاستفتاء. هذه هو الأصل. ولم يكن الاستفتاء سوى دسترة للانقلاب ودعوة الناس إلى التصويت على "دستور" جمع فيه من كتبه بمفرده كل السلطات بين يديه، ولم ينس أن يضمن لنفسه فيه أن يكون فوق كلّ محاسبة.
وتُبيّن النتائج المشكوك في نزاهتها وسلامتها من التزوير بسبب غياب الأدنى من شروط الاختيار الحر أنّ نسبة المصوّتين بنعم لا تتجاوز الـ25%. وهي أضعف نسبة مشاركة قياسا إلى كلّ الاستحقاقات الانتخابية السابقة. فضلا عن أنّها نسبة لا تسمح معايير الاستفتاء المعمول بها بتزكية "دستور سعيّد". وبالنتيجة فإنّه ليس أمام سعيّد، على ضوء ما تمّ التصريح به من قبل هيئة بوعسكر، سوى الاستقالة، مثلما دعت إليه جبهة الخلاص الوطني في ندوتها الصحفية المميّزة اليوم. وهو ما لن يعمل به، وإلاّ لما كان انقلب على دستور أقسم على احترامه والالتزام بأحكامه. ولمَا كان أقدم على تمزيق ميثاق أخلاقي وعقد سياسي بموجبه ترشّح وصار رئيسا للجمهورية.
الانقلاب في أساسه ثأر للنظام النوفمبري من ثورة الحرية والكرامة. وهذا ما جعل من تاريخ الانتقال الديمقراطي في سنواته العشر في حقيقته تاريخ محاولات الانقلاب على هذا الانتقال نفسه.
تحرّك مشروع الانقلاب داخل شروط سياسية واجتماعية من أهمّها طبقة سياسية منقسمة أدركتها الثورة وهي في خريف العمر السياسي فلم تحسن ترتيب أولوياتها (استقوت على بعضها البعض بالقديم) ، وعجزت عن بناء نظام ديمقراطي مستقرّ. وهو ما يستدعي مرحليا الجمع بين الكفاح الديمقراطي وجهود البناء السياسي للقوى المناهضة للانقلاب، واستراتيجيا خوض مراجعات عميقة للفكر والنخبة والدولة ومناويل السياسة تواصلاً مع كان من نقد جذري للعشرية من قبل أقلام وشخصيات دافعت عن الديمقراطية وشروطها. وهي الأقلام التي كانت في قيادة الحراك المواطني في مواجهة الانقلاب، وقد أقامت فصلا واضحا بين التفريط (24) والتضليل (25)، أي بين الأخطاء تحت سقف الديمقراطية وخطيئة هدم الديمقراطية ومرجعيتها الدستورية.
مسار بناء الديمقراطية برنامج سياسي مرحلي ومشروع مواطنة استراتيجي بأفق تجديد الطبقة السياسية. وهو في مطلق الأحوال، مسار عسير ومركّب. ويبدو، في سياقنا الثقافي والاجتماعي السياسي والذهني، أكثر عسرا وتركيبا.
هو مسار إشكالي يستدعي إليه مشكلات موروثة ومترابطة لم تنجح النخبة في نقدها وترتيبها وبناء مشترك حولها. فلم تقدر على أكثر من إعادة إنتاجها وقودا لصراع إيديولوجي بلا أفق.
ومع ذلك أمكن بفضل الثورة تدشين مسار انتقال ديمقراطي بسقف حريات عال تحقّقت في ظله مكاسب عديدة في الحياة السياسية الجديدة، مكاسب في الحريات وبناء المؤسسات. وهو ما يفسّر الصمود البطولي للمسار الانتقالي على مدى عشر سنوات من الاستهداف والتدمير النسقي في سياق محيط إقليمي عربي مناهض للديمقراطية ولامبلاة محيط دولي يقدّم مصالحه على قيمه المرجعية المعلنة وفي مقدّمتها الديمقراطيّة.