1- أبان راشد الغنوشي في مقابلته التلفزية عن خطاب سياسي ذي أخلاقيّة عالية. واعتبر "جلسة الحوار البرلماني" تمرينا راقيا ومتميّزا أمام العالم يشهد للديمقراطيّة في محيطها والعالم…رغم ما أكيل له من شتائم وسباب منحطّ من قبل نكرات من البوليس والزغراطة والمرممين لصورهم المهتزة، ومن أشباه هم في عمر أحفاده…ومن المؤسف أنّ "خطاب الكراهية" والمنافي لكل خلق إنساني وديمقراطي لم يلق تنديدا من أيّ نائب يعارض الغنوشي أو يختلف معه.
وهذا سقوط سياسي مدوّ بقدر ما يجلو "حقيقة المعركة" يثير غبارا كثيفا عن العلاقة بالثورة والديمقراطيّة واحترام الذات البشرية وتوقير الكبير. حتّى من كانوا مؤدبين في نقدهم الجذري لرئيس مجلس نواب الشعب سكتوا عن سبّه المقذع. تعاليه عن جراحه، باستهدافه في الأشياء الأشد حميمية وبلغة كلوشارات منحطة، أسقط خصومه سياسيا وحرمهم مما هدفوا إليه.
2 - كانت أوضح رسالة في المقابلة هي أنّ التعارض بين الائتلاف الحكومي وتمثيله البرلماني لا يمكن أن يتواصل. وهو ما يعني سياسيا التوجّه إلى ائتلاف حكومي جديد يُفهم من السياق أنّه قد يضمّ التيار والنهضة وقلب تونس.
أزاح كثيرا من الغموض عن علاقة البرلمان بالرئاسة بالتأكيد على أنّ الاختلاف الذي جدّ وقد يجد يتم من داخل مؤسسات الدولة، وهو صورة من تجريب لنظام سياسي مازلنا نتعرّف إليه في سياق انتقال ديمقراطي لم يستقرّ بعد.
3 -في حديثه عن سنوات "الحكم" العشر وحزبه شريك فيها وما رافقها من تعثّر بلغ إلى حدّ العجز عن تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، لامس جوانب من الإجابة من خلال الإشارة إلى النظام الانتخابي، وفاجأني حديثه عن "سيلان السلطة"، ولكنّه لم يبن عليه جوابه. وكان يمكن التفصيل في هذا السبب أن يقود إلى تفسير عميق لسبب الإخفاق الغالب للحكومات المتعاقبة (كانت كلها حكومات تصريف أعمال).
في تقديرنا: العشر سنوات الماضية لم يكن هناك "حكم"، كان هناك "تسيير". وهو ما يعني أنّه "لم يحكم أحد البتة". وإنّما كانت هناك عملية تسير. والسبب هو انفصال السلطة عن الحكم. ففي فترة الاستبداد كانت كلّ السلطة في يد جهة واحدة (الحاكم المستبدّ). وهو ما يَسّر تنفيذ السياسات بغضّ النظر عن مضمونها.
بعد الثورة تذررت السلطة (وقد أشار إلى هذا دون تفصيل) فصارت أَنْصِبة السلطة في يد جهات مختلفة (الاحزاب المفوّضة، اتحاد الشغل، اتحاد الأعراف، لوبيات المال والاعمال…. الخ) والنتيجة هي أنّ من تمّ تفويضه لا يملك النصيب الضروري للحكم وإنفاذ السياسات.
وهذا هو السبب العميق الذي جعل الشرعية الانتخابية ليست هي الشرعية السياسيّة. لذلك فإنّه، في هذا الظرف من سيلان السلطة، حتّى تمّ تغيير في القانون الانتخابي وفاز أحد الأحزاب بالأغلبية المطلقة فإنّه لا يستطيع أن يحكم. فضلا عما يظهر من اتجاه تطور نحو التصلب في مسيرة المنظومة القديمة (مرحلة السفساري، مرحلة التوافق، مرحلة الصدام مع الديمقراطيّة والعمل على تقويضها) يمنع الوفاق المطلوب لجمع ما أمكن من "السلطة السائلة" حتّى يكون "الحكم" ممكنا…وتواصل العجز عن تنفيذ السياسات وإدمان التجاذبات والتعطيل مؤذن بخراب الاقتصاد وانهياره.
4 -في تطرّقه إلى الملف الليبي تحدّث عن الطرف المنتصر وأهمية تهنئته ولم يذكر أنّه الطرف الذي يدفع إلى الحل السياسي وتدشين مسار ديمقراطي. وكان المنتظر منه أن يشدّد على أنّ الذي يحدّد موقفنا من الوضع الليبي هو الثورة والتزامنا الديمقراطي، وعلى ضوئه نحدّد موقفنا من الملف الليبي والقوى الإقليمية والدولية المتدخّلة فيه، فنقف سياسيا مع من يتبنّى الحل السياسي الديمقراطي من الفرقاء الليبيين ومن يدعمهم إقليميًا ودولياً.
5- تحدثّ عن ليبيا من جهة مصلحة تونس الاقتصاديّة فقط (رجال أعمالنا، وفلاحينا، وشبابنا المعطّل…) فبدت ليبيا مغنما.
هذا نقص لا يليق بمثله. فالليبيون هم إخوتنا في العروبة والإسلام والمصير أوّلا. ثم كان المطلوب هو الربط بين دفاعنا عن حقهم في الكرامة والحريّة والاختيار الحر ودرء الديكتاتورية المتخلّفة وبين مصالح تونس الديمقراطيّة.
هذا الربط كان شبه غائب. فالمصلحة عندنا مشروطة بالديمقراطية وقيم المواطنة، وإلا ما المانع في أن نحقق هذه المصلحة مع أعداء الإنسان والحريّة وهم كثر.
6- أثبت الرجل وهو الشيخ الطاعن في السن جَلَدًا عجيبا وقدرة على التحمّل وضبط النفس غير مسبوقين وعزما على كظم الغيظ غريب، لم نره عند كلّ من عرفناهم من الرؤساء (المرزوقي، السبسي، سعيّد…). وقد كتب أحد الشباب الصحفيين (من ناقدي الغنوشي ومخالفيه) في ألترا - تونس مقالا عميقا في هذا الموضوع ذكر فيه عدّة أسباب ولكنّه رجّح آخرها وهو معاناة الرجل في مسيرته السياسة وما تكبّده من سجن وقهر وتشريد وإبعاد، وما عرفته حركته من قمع وتنكيل وقتل ومن تقلبات واختلافات وهزات وانسحابات ومحن ومخاطر وجودية لم تعرفه حركة سياسيّة معارضة في تاريخ تونس الحديث. فقد عرفت حملات استئصال امتدت ثلاث عشريات كادت تأتي عليها.
أشير إلى هذا، وأسمح لنفسي ولا أدري إن كان يحق لي ذلك، وهل هو أخلاقي، بالقول إنّه مع ذلك قد مكّن نكرات من تفّه وبوليس سياسي وزغراطة من نفسه ومن حركته ومن مسيرته بتقدّمه إلى رئاسة البرلمان، فنَقلت كلماتهم وكالات أنباء دوليّة وقنوات عالمية وعربية…
يبدو شيخ النهضة الجلد في وضع صعب في حزبه وفي البرلمان وفي علاقته بالحكومة ومكوناتها…
7- يذكّر الرجل في سيرته بياسر عرفات في علاقته بمناضلي حركته وبمصادر القوة فيها (المال والقرار السياسي) …وهو صورة من ابن آدم إذا بلغ من العمر عتيّا ألمّ به أمران: الحرص وطول الأمل.
نقد الغنوشي ضرورة، من خصومه وممن خالفه من أبناء حركته، وممن شاركوه يوما مرحلة من مسيرته، وممن لا تربطهم به صلة عداوة غو صداقة. فهو جزء مهم من المشهد.
نعتبر حركته من أهمّ شروط تأسيس الديمقراطيّة: فكما أسست الكمالية الدولة الوطنيّة وبنت الأردوغانية الديمقراطية. ويبدو هذا مثله في تونس: فكما أسست البورقيبية الدولة الوطنيّة تتجه حركة النهضة إلى ختم بناء الديمقراطيّة باعتبارها أهمّ شروطها وليس وحدها.
ومع ذلك فإنّه لا مكان لـ"لاصوت يعلو فوق صوت المعركة" الذي يرفعه كثير من أنصار النهضة (بالنسبة إلينا لا معركة غير معركة بناء الديمقراطيّة)، فنقد شيخهم حدّ الجذرية مطلوب بل ضروري، وهذا النقد عند من يؤمن بالديمقراطيّة دفاع عن شروط الديمقراطيّة نفسها. وهو غير سباب والسفساف والانحطاط الذي يصدر عن البوليس والزغراطة والشبيحة الذي يستهدف شروط الديمقراطيّة ويستدعي أحطّ أشكال الحكم والقهر التي عرفتها بلادنا منذ 56.