أكثر من دعوة إلى رئيس الجمهوريّة ومن جهات حزبيّة ديمقراطيّة للتدخّل أمام تفاقم الأزمة في أكثر من مستوى. أنا لا أفهم هذه الدعوة للأسباب التالية:
- سبب مبدئي : فالرئيس قيس سعيّد لم يخف مناهضته للمنظومة الديمقراطيّة وللنظام السياسي المنبثق عن الدستور ورفضه الانتظام الحزبي وإدانته سياسيا.
أ- سبب إجرائي: فقد تكلّم الرئيس منذ يومين في إطار غامض لا هو بمجلس الأمن القومي ولا هو المجلس الأعلى للجيوش. وهو إطار لا مرجعيّة قانونية له.
- سبب مضموني : إذ لم يقدّم الرئيس تشخيصا للوضع بتعقيداته وتحولاته المتسارعة توتراته (تطاوين) واكتفى بالإشارة مرّة أخرى إلى وجود من يسعى إلى تفجير الدولة من الداخل. دون أن يكشف عن "هذا الذي يسعى". وهو ما من شأنه يدخل قلقا واسعا لدى الرأي العام وشكاًّ حول المسار السياسيّ ومستقبل البلاد.
رئاسة الجمهوريّة لا تنطقُ وإنّما ينطق عنها رئيس الجمهوريّة. والمنطقي أن يُنَاقَش رئيس الجمهوريّة في موقفه من المسار الديمقراطي ومدى تطابقه مع دور رئاسة الجمهوريّة في النظام السياسي الجديد.
جهتان تجاهران بمناهضة المنظومة الديمقراطيّة ونظامها السياسي من موقعين مختلفين: الرئيس قيس سعيّد، ورئيسة الدستوري الحر عبير موسي التي تضيف ازدراءها للثورة وشهدائها وتمجيد رموز نظام الاستبداد الآفل واستهداف مؤسسة البرلمان بتعطيل سيرها.
وبين هذين الحدّين والموقعين تقوم أحزاب تتبنىّ الديمقراطيّة في ظاهر خطابها وتلتزم باستكمال مسارها والعمل على دعم شروطه، ولكنها تتقاطع مع الجهتين المناهضتين للمسار في إطار حسابات حزبيّة ومحاولة فرض معادلات سياسيّة تخدم توجهها.
اليوم الأزمة تضرب بقوّة مؤسسات الدولة الثلاث الرئيسية: مجلس النواب، الحكومة، ورئاسة الجمهوريّة التي لم تنجح في أن تكون جزءا من الحل والجهة التي توحّد التونسيين وتمثّلهم وتأخذ بيدهم في هذه الظروف الصعبة جدّا.
أمران مهمّان مطلوبان:
- دعم شروط الديمقراطيّة وتعزيزها لاستكمال بناء مؤسسات النظام السياسي الجديد واستقرار الوضع مقدّمةً إلى الإصلاحات المطلوبة.
- الدفع إلى تسويات تاريخية كبرى بين الفاعلين الرئيسيين ترأب الصدع بين الحكم والنفوذ وتزيل استعصاء البلد على الحكم، فيتوفر نصيب السلطة/النفوذ الضرر لإنفاذ سياسات من تمّ تفويضه بالانتخاب ولم يستطع تجاوز "تسيير الأعمال" على مدى عشر سنوات الثورة إلى الحكم وتنفيذ البرامج.
يبدو أنّ شروط الانتقال من "التوافق" إلى الإصلاح" غير متوفّرة. وهو ما يشهد به حال الحكومة وائتلافها المتناحر.
انتخابات 2014 (الرئاسيّة خاصة) كانت فرزا أصيلا على قاعدة "النمط المجتمعي"، وأبانت عن انقسام البلاد بين مشروعين ونمطين متكافئين، وأقنعت المعتدلين من الجهتين بضرورة بناء توافق بشروط الانتخابات والانتقال الديمقراطي، في حين كانت انتخابات 2019 فرزا ظاهره الأخلاق وباطنه الغموض والانفعال، ومثّلت تدهورا مستمرّا وانحدارا عن منجز 2014 في التسوية والمصالحة التاريخية. وما رافقه من ضعف مطّرد في قوى الاعتدال من الجهتين وانتعاش القوى الجذرية في الفسطاطين.
لا أفق لهذا التجاذب المدمّر غير انهيار التجربة برمّتها…