في تونس حياة سياسيّة متجدّدة تًصنع كلّ يوم أخبارها وتصوغ جديدها. حياةٌ سياسيّة صميمة تصل فيها الرهانات السياسيّة إلى درجة من التشويق عالية، ويبلغ فيها اللعب الرشيق داخل مربّعات الفعل السياسي الضيّقة مدى من الإثارة بعيدا لولا سياق الأزمة الماليّة الاقتصاديّة المتفاقمة والتوترات الاجتماعيّة المتصاعدة، وما يتهدّد التجربة الديمقراطيّة من مخاطر تجاهر بعدائها ولا تُخفي ولاءها لجهات إقليميّة تعتبر المشروع الديمقراطي في المجال العربي تهديدا وجوديّا دائما.
في ظلّ هذا تتواصل الأزمة الحكوميّة بين مكوّنات الائتلاف الحكومي لتمثّل مركز الثقل في هذه الأزمة الشاملة. وتتضافر على تأجيجها أسبابٌ عميقة تجد جذورَها فيما رافق المسار الانتقالي من انفصال بين السلطة والحكم وصورتَها في النظام السياسي وأداء الفاعلين السياسيين في الحكم والمعارضة والعجز عن الوصول إلى تسويات تاريخيّة يستقرّ عندها البناء الديمقراطي الجديد.
هشاشة الائتلاف الحكومي
مثّل إسقاط حكومة الحبيب الجملي نقطة تحوّل حقيقية في المشهد السياسي بعد انتخابات 2019 لم تُقرأ القراءة الشجاعة ممّن كانوا ضمن "قائمة 134" التاريخيّة. ولكنّها صارت من ثوابت التقدير السياسي عند حركة النهضة حين أدركت حجم خساراتها السياسيّة في بداية عهدة سياسيّة تمتدّ على خمس سنوات. وهي لا ترى في ورقة "سحب الثقة" من رئيس البرلمان التي تلوّح بها بعض مكونات الائتلاف الحكومي هذه الأيّام إلاّ تفصيلا سياسيّا عن ذلك التصويت التاريخي. فبسقوط حكومة الجملي خسرت النهضة رئاسة الحكومة وما تمثّله من صلاحيات تنفيذيّة واسعة، لتكتشف سريعا توترها مع رئيس الجمهوريّة، وقد كانت منحته أصواتها في الدور الثانيّ من الانتخابات الرئاسيّة.
ويعيد البعض كلّ هذه التداعيات إلى إصرارها على الفصل بين المسارين البرلماني والحكومي. وما نتج عنه من تضارب معطّل بين الأغلبيّة البرلمانيّة والائتلاف الحكومي. فصارت تلك الخسارات السياسيّة، إلى جانب الاستهداف العنيف من قبل الدستوري الحر، الموّجه الرئيسي للحزب الأول.
والهشاشة الحكوميّة لا تجد حقيقتها في أداء الائتلاف الحكومي ولا في تباينات مكوناته الإيديولوجيّة فحسب بقدرما تكمن في هذه المفارقة الواضحة بين طبيعة النظام السياسي شبه البرلماني وصيغة "حكومة الرئيس" المستجدّة. فالأصل أن تستمدّ الحكومة صورتها السياسيّة من نتائج الانتخابات وتَوازنِ الكتل البرلمانيّة.
ولكنّ الفخفاخ أختار بداية أخرى تجاهلت هذا المعطى المهمّ. وسجن حدود حكومته السياسيّة، بلا موجب، في من صوّتوا للرئيس قيس سعيّد في الدور الثاني. وتظهر اليوم نتائجها المربكة في علاقة السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة في أثر سلبي واضح على المشهد البرلماني والأداء الحكومي.
وينضاف إلى كلّ هذا ارتهان غير مفهوم من قبل رئيس الحكومة للرئيس قيس سعيّد. وبدا هذا جليّا في انحراف جديد عن صريح الدستور عند تشكيل الحكومة. ومنه أنّ الدستور يقرّر بأنّ وزيريْ الدفاع والخارجيّة يُقترحان من قبل رئيس الحكومة بالتشاور مع رئيس الجمهوريّة. ولكنّ العكس هو الذي حصل.
وحتّى وزير الداخليّة كان بتعيين من ديوان الرئيس ومحيطه. وانعكس هذا الارتهان على أداء وزير الخارجيّة شبه الغائب في سياق إقليمي شديد التوتّر يفترض حضورا فاعلا للديبلوماسيّة التونسيّة في الملف الليبي. مثلما انعكس على علاقة الرئاسة بالبرلمان وكان السقوط في سجالات منخفضة وضعيفة الصلة بمصالح البلاد في الداخل وفي الجوار.
كارثة تضارب المصالح
رغم هشاشة الائتلاف الحكومي فإنّ نوعا من الفصل الإجرائي بين البرلماني والحكومي مكّن من أداء محترم لفريق الفخفاخ في مواجهة الوباء. وأمكن بناء انسجام تام بين القرار الطبّي والقرار السياسي من الانتصار على الكورونا إنقاذ الأرواح (وهو أولويّة) والتخفيف من آثارها الاقتصاديّة التي كانت ثقيلة على وضع اجتماعي يعرف أزمة ماليّة اقتصاديّة هيكليّة مركّبة. ومثّل الانتصار المحمود على الوباء حالة إيجابيّة مساعدة على التفرّغ لمواجهة الأزمة ومن عناوينها محاربة الفساد. ومع الملفّات الأولى المثارة في الموضوع كان اللامنتظر بالنسبة إلى من أعطوا ثقتهم في الفريق الحكومي وفي قدرته على مباشرة هذا الملفّ الشائك والمفصلي في البناء الجديد.
مثّل ملفّ شبهة تضارب المصالح المتعلّقة برئيس الحكومة ثمّ ببعض وزرائه "حادث سير قاتل" في طريق الحكومة قلَب المشهد السياسي رأسا على عقب. ولا عبرة بمن أثاره، ولا يلطّف مِن آثاره السياسيّة والأخلاقيّة المدمّرة تشديد بعض من الفريق الحكومي، وفي مقدّمتهم وزير الوظيفة العموميّة والإصلاح الإداري، على أنّ من فجّر الملف هم من الفسَدة. وكان من أوّل نتائج هذا الحادث المريع أنّ من جعلوا مهمّة محاربة الفساد أولويّة أسقطوا "مبدأ محاربة الفساد" في ذاته. وهي من الخسارات الاستراتيجيّة في مسار بناء الديمقراطيّة.
توتّرت المواقف بين الدعوة إلى وجوب استقالة رئيس الحكومة الآليّة، فالتقاليد الديمقراطيّة لا تسمح بغير الاستقالة أيّا كانت نتائج التحقيق البرلماني والقضائي، وموقف الفريق الحكومي الداعي إلى انتظار نتائج التحقيق. مع تباين في درجة هذا الموقف. وتميّز موقف التيار الديمقراطي بدفاعه المستميت عن انتظار نتائج التحقيق وعلى ضوئها يكون مصير الحكومة. وهو الذي شدّد على استقالة من تعلّقت بهم شبهات مماثلة في السابق بالاستقالة الفوريّة، معتبر الأمر يتجاوز القانون إلى المستوى المبدئي والأخلاقي. ولا يخفى هذا البعد الانتقائي في موقف التيّار، وهو من نعى على يوسف الشاهد انتقاءه في حربه المعلنة على الفساد. وهي عنده أقرب إلى حرب بين فاسدين.
والتيّار وإلياس الفخفاخ يدركان جيّدا بصمة يوسف الشاهد في إثارة ملفّ تضارب المصالح، وكيف أنّه يمثّل بالنسبة إليه طوق نجاة في مواجهة ملفّات فساد كبرى تعلّقت بفترة رئاسته الحكومة. وهي ملفّات لن تخطئها حكومة الفخفاخ وفريقها المتحمّس لمحاربة الفساد.
أمّا موقف حركة النهضة فقد راوح بين اعتبار المتهم بريئا حتّى تثبت إدانته. ولكنّه شدّدت فيه على مطلبها القديم المتجدّد بتوسيع الائتلاف الحكومي لدواع لا يشاطرها فيها شركاؤها في الائتلاف.
مالت كثير من التقديرات المتعاطفة مع فكرة الإصلاح وضرورة الخروج من سياسة التوافق إلى تجنّب استقالة الفخفاخ وسقوط الحكومة. ولكن يبدو أنّ تجنّب المحظور تَضعُف حظوظه مع الوقت في تناسب مع احتداد التجاذبات داخل الائتلاف الحكومي وخارجه.
سحب الثقة ورصاصة الرحمة
في اليومين الأخيرين جرت مياه غزيرة في نهر الحياة السياسيّة. وافتتحت حركة النهضة توجيه المشهد بنصحها إلياس الفخفاخ بالاستقالة، بعد أن رشح رفضه الاستقالة والتوسيع ودعوته من لم يعد مقتنعا باستمرار الحكومة إلى الانسحاب منها. في حين تداولت وسائل الإعلام خبر اجتماع كتل برلمانيّة من الائتلاف الحكومي وخارجه هي الكتلة الديمقراطيّة (التيّار والشعب) والكتلة الوطنيّة (حسونة الناصفي) ونواب تحيا والائتلاف الوطني (حاتم المليكي منشق عن قلب تونس) على فكرة سحب الثقة من رئيس البرلمان. وهو ما يعني انطلاق سياسة عضّ الأصابع بين النهضة وشركائها وحرب افتكاك زمام المبادرة لحسم الموقف في الخطوات الأخيرة.
"سحب الثقة" مبادرة تطلّ برأسها من جديد. ومن الصعب افتكاك "براعة اختراعها" من الدستوري الحر في صراعه مع "الإخوان". لذلك ستجد كثير من التسريبات عن تنسيق بين التيّار والدستوري الحرّ مصداقيتها في هذا السياق السياسي شديد التوتّر. وستفرض فرزا لم يكن بالوضوح الكافي عند انطلاق العمليّة السياسيّة مع انتخابات 2019. وستعيد النظر في صراع النهضة الدستوري الحر: ما حقيقته؟ وما أفقه؟ وما علاقته بمستقبل حكومة الفخفاخ والتحديّات التي تواجهها؟
صراع النهضة والدستوري الحر مربك. فهو عند مكونات من شركاء النهضة في الائتلاف الحكومي جولة من صراع متخلّد بالذمّة بين بقايا نظام بن علي وحركة النهضة. وهذا موقف التيّار وحركة الشعب. في حين لا تخفي مكونات أخرى انخراطها إلى جانب الدستوري الحرّ في معركته الأبديّة هذه.
وتعتبر حركة النهضة الموقفين مختلفين في الدرجة لا في الاتجاه. وتأكّد عندها هذا بعد تصويت التيار الديمقراطي في مكتب المجلس لفائدة تمرير لائحة الدستوري الحر (اعتبار الإخوان المسلمين حركة إرهابيّة). وقد كانت اجتهدت في الإقناع بأنّ استهدافها من قبل الدستوري الحر يتجاوزها إلى استهداف المنظومة الديمقراطيّة وشروطها من قبل قوى إقليميّة معلومة وأنّ الدستوري الحر ليس أكثر من أداة. وبهذا المعنى فإنّ استهداف الديمقراطيّة (تعلنه رئيسة الدستوري الحر بكل وضوح) لا يمكن أن يكون وجهة نظر داخل سياق تُبنى فيه الديمقراطيّة ويستكمل مسارها.
هذه نقطة مفصليّة تضيء أهمّ زوايا المشهد السياسي الحالي وتوتّراته ومواقف قواه الفاعلة. ولن يُفهم مقترح سحب الثقة، رغم دواعيه الكثيرة، إلّا على أنّه فرز كان لا بدّ منه سيجبر مقترحيه على الاصطفاف الموضوعي في مساحة أعدّها الدستوري الحر رغم رفضهم الوقوف عليها. وهذا ما سيجعل من دعَوْا إلى سحب الثقة من رئيس البرلمان في وضع لا يحسدون عليه. وستكون خساراتهم السياسية فضيعة، أقلّها الانقسام. وهم في ذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار. فالتيّار يدرك أنّ في سقوط الحكومة خسارة سياسيّة فادحة له ستطول مصداقيّته وما وعد به في محاربة الفساد. وكلّ ما لوّح به من ملفّات فساد منها ما متعلّقة بالنهضة وبتمويلها دون أن يقدّم هو ولا أحد خصومها ولا عيّنة عنها. وقد كان اعتبر خوف النهضة من مشاركته إيّاها في الحكم إنّما يعود إلى هذا السبب الأساسي.
في هذا السياق يأتي مجلس شورى النهضة المنعقد منذ يومين، وقد رشح عنه تصويت أعضائه بـ 54 % لفائدة الشروع الفوري في تشكيل حكومة جديدة. و38 % صوّتوا مع الاستقرار الحكومي. وسواء صحّ ما رشح من تفويض مجلس الشورى رئيس الحركة للتفاوض مع رئيس الجمهوريّة والقوى السياسيّة والاجتماعيّة لتشكيل حكومة جديدة، فإنّ كلّ الأسباب ـ وأقلّها انتفاء الثقة بين مكونات الائتلاف الحكومي ودخولها في حرب مفتوحة ـ يجعلان من أيّام حكومة الفخفاخ معدودة. وحتى لو اضطرّ المختلفون فيها وحولها إلى استمرارها فإنّها لا تحمل عاملا واحدا من عوامل البقاء والقدرة على التسيير فضلا عن الإصلاح وهو عنوانها الأساسي ومبرّر تشكيلها.
نحن أمام مرحلة سياسيّة تُطوى سريعا، واستحقاق انتخابي مهمّ استُهلك في وقت قياسي، ولم يعد له من طاقة سياسية في سياق داخل اجتماعي متوتّر بأزمة ماليّة اقتصاديّة مفتوحة على الإفلاس وجوار إقليمي متفجّر.
خلاصات مكثّفة
يبدو أنّه لا أفق إلاّ بحكومة جديدة تخرج عن مشاورات سياسيّة ووطنيّة واسعة بمرجعيّة انتخابات 2019 ونتائجها بهدف حماية المسار ومجابهة استهداف التجربة من الداخل والخارج. وإلاّ فإنّ العودة إلى الشعب ستكون آخر الطب، رغم كلّ التحديّات والمخاطر.
ونخلص إلى أنّ العجز عن إرساء تسويات سياسيّة كبرى في سياق انقسام نمطي واجتماعي يمثّل وجه الأزمة السياسي الأبرز.
كانت محطّة 2014 الانتخابيّة فرصة لتسوية تاريخيّة لتثبيت المسار الديمقراطي بعد أن توفّرت شروطه: إجماع على فكرة الدولة، مؤسسة عسكريّة وأمنيّة بلا طموح سياسي، ولقاء في الوسط بين معتدلي القديم والجديد ولكنّ انهيار الواجهة السياسيّة لأحد طرفي المعادلة وانخفاض منسوب الثقة وغياب قوى سياسيّة مستقرّة ووازنة عطّل التسوية. ولئن مثّلت انتخابات 2019 التشريعيّة انتصارا خجولا لمزاج "الجديد"، إلى جانب انحسار واضح في قوى الاعتدال (النهضة) وصعود لقوى جذريّة من الجهتين ( الكرامة والدستوري)، فإنّ الانتخابات الرئاسيّة في جولتها الثانية مثّلت انحدارا آخر نحو استقطاب أخلاقوي بلا مضمون سياسي.
الديمقراطيّة لم تكن مطلقا سليلة الثورات الجذريّة التي لم تنجز أكثر من أنظمة شموليّة انتهت عند دكتاتوريات أشدّ من التي أسقطتها ( الفرنسية، البولشفيّة، الإيرانيّة). الديمقراطيّة كانت نتيجة لتسويات تاريخيّة كبرى (في أوروبا كانت سليلة تسوية بين رأس المال والسياسة). وهذا قد يعدّل من تصوّرنا للثورة باتجاه أنّها "إصلاح محض" . فالثورة هي الإصلاح، والإصلاح يسارها. لذلك كان الأنبياء أكثر تواضعا من الفلاسفة بتشديدهم على أنّهم "أرادوا ما استطاعوا من الإصلاح"، في إشارة إلى تناسل الجهد البشري بعضه من بعض وتكامله بغاية اجتماع إنساني كريم.
الثورة ابتداع الفلاسفة بما يصحبها من فكرة القطيعة/الصراع المتوهّمة وأساسها مفهوم التناقض، والإصلاح ابتداع الأنبياء بما يصحبه من فكرة التعارف/التدافع المتحقّقة وأساسها مفهوم الاختلاف. وما انطلق مع ثورة الحريّة والكرامة ثورة الألفيّة الثالثة هو جيل جديد من الثورات في وضع إنساني أكثر تعقيدا. يسميّه المفكّر عزمي بشارة " الثورات الإصلاحيّة".