الشارع في جانب منه هو "اختبار قوّة" و"استفتاء على الشعبية" في النظام الديمقراطي. وقد عرفنا آخر اختبارين يوم 6 فيفري في ذكرى الجريمة بشارع الحبيب بورقيبة الفارط ويوم 27 من الشهر نفسه في مسيرة دعم الدولة والديمقراطيّة بشارع محمد الخامس.
سميڤ المهنية الإعلامية وأبجديات رصد اتجاهات الشارع وتحسّس ميزان القوى السياسي والأدنى من مقوّمات الخطاب السياسي تستدعي الوقوف عند الاختبارين وعند تاريخ 27 فيفري 2021 في تجربة الانتقال إلى الديمقراطية وشروط استمرارها السياسية والاجتماعية.
لاشيء من هذا، سياسيا وإعلاميّا وأكاديميًا.
ففي المستوى السياسي كانت ردّة فعل رئيس الجمهورية الفورية من خلال خطابه الشعبوي العاجز عن نظم جملة سياسية واحدة منذ توليه الرئاسة.
وفي المستوى الإعلامي يكفي أن تتعثّر بلطفي العماري لتقف على حجم الانحدار والجرأة على العبث بنسيج العلاقات الإنسانية ومنظومة القيم الجامعة ، بعد العبث بفكرة الدولة والدستور والمعلوم من الديمقراطية بالضرورة.
وأكاديميّا، لن تُفاجأ بمستوى "أكاديميا التسوّل" وجمهورها من الجامعيين والمثقّفين فقد رضيَتْ في سوادها الأعظم بمرتبة التنبير الفايسبوكي البائس. وكأنّها فقدت القدرة على النقد السياسي والتقدير من خلال متغيّرات المشهد المتسارعة والحياة السياسيّة المتجدّدة، رغم ما تعرفه من تعطيل في مستوى السلطة التنفيذية لا يتقن رئيس الجمهورية غيره. وذلك ديدن من يعيش الدرجة الصفر من الشعور بالمشترك السياسي والحسّ الاجتماعي.
يوم أمس، ساعدت الحشود، على التثبّت من مصداقية ما تحدّثنا به منذ 2012 فقد عاينّا أحد أهمّ شروط بناء الديمقراطية تتحيّز في شارع محمدّ الخامس. وهو ما يعني عندنا أنّ الديمقراطيّة لم تَستكمل مسارها. إذ يرتبط بلوغ الديمقراطية غايتها وحالة استقرارها، في أطروحاتنا، انتفاء شرطها الأساسي (النهضة) واضمحلاله وحلوله في هويّة سياسية جديدة ضمن معادلات النظام السياسي الديمقراطي الجديد.
أهمّ رسالة يمكن الاحتفاظ بها من يوم أمس هي استمرار شروط تأسيس الديمقراطية وما تتميّز به من حيوية رغم حدّة الأزمة، وأمّا استكمال عملية البناء والتأسيس فتلك مهمّة أخرى تفيض على "شرطها الأساسي"(النهضة). بل يمثّل نقده الجذري أولويةً وشرطا لمهمة استكمال البناء (وهذا استحقاق سياسي راهن)، إلى جانب شروط أخرى منها "توسيع المشترك" مقدّمة إلى تسوية تاريخيّة هي أساس المشروع الوطني المنشود.
غدا، يوم الاثنين، سيتحدّث إعلام اللوبيات النوفمبري عن مسيرة محمد الخامس ليعبث بكلّ الروابط وينهش كلّ الصلات، وليتحدّث في كلّ شيء إلاّ في علاقتها بالديمقراطيّة وبالكلمة السواء التي لا غنى عنها لاجتماع الناس وتعاونهم على تجويد معيشتهم وأنسنة انتظامهم وتحقيق تعارفهم.
هل يُستخلص الدرس؟
أتمنّى أن أستفيق صباحا وأجد حزبا كبيرا في حجم النهضة قد نشأ حتّى يمثّل معها توازنا سياسيّا تستقرّ عنده الديمقراطيّة إلى حين. إذ يبدو أنّ الديمقراطيّة التمثيليّة مرحلة نمرّ بها إلى ما هو أعلى منها لما يتيحه من مشاركة أوسع وأفقيّة أرحب.
وجود حزبين أو ثلاثة أحزاب كبرى بقدرما يقيم التوازن السياسي المطلوب في الديمقراطيّة فإنّه يدفع المنافسة في البرامج إلى أقصاها. فمهرجان النهضة الحاشد اليوم المصاحب لمسيرتها يقدّم عرضا ضعيفا في مستواياته الفنيّة ( محلى الثورة التونسية تضم الجميع) والسياسيّة (لا جمل سياسيّة تضبط المرحلة) والبرامجيّة ( لا مقترح مخططات ومشاريع) واستراتيجيّة ( لا تصوّر للقوى الحاملة للمشروع الوطني وروافده الإقليميّة والدوليّة)، في ظلّ أزمة ماليّة اقتصاديّة وصحيّة وانسداد سياسي تؤمّنه شعبويّة ضحلة صمّاء وشعبويّة مسعورة جوفاء.
عرض النهضة الهزيل( بمعزل عن قوّة الحشود غير المسبوقة) هو صورة عما غرق فيه المشهد السياسي من مناكفات سياسيوية فارغة (برع فيه بعض النواب التافهين ووجوه حزبيّة مفوّتة) وسجالات إيديولوجيّة مكرورة وخطاب كراهيّة منفّر بعيدا عمّا ينفع الناس من فكر وفنّ ومعرفة وبرامج ومخطّطات ومشاريع.
لم نكن نتوقّع أنّ تكون معركة بناء الديمقراطيّة ـ وهي معركة سياسية في جوهرها ـ شاغلة ـ عن بلورة مضامين في المجالات المشار إليها. فقد كانت معركة فرض الحريّة ومواجهة الاستبداد مانعة من التركيز في البدائل المطلوبة( وحتى هذا غير مبرر فالقوة الفعلية تبني وهي تُواجه). ومن المؤسف أن يكون للمواجهات السياسيّة والإيديولوجيّة التي لم تنته بعد كسر الاستبداد ومحاولة بناء الديمقراطيّة تأثيرُ سياسةِ الاستبداد القمعيّة على المعارضة وحرمانها من فرص التفرّغ لبناء البدائل وإنتاج مراجع فيها.
وهذا أكثر ما يصحّ عن الإسلاميين فقد امتدّت مواجهتهم مع الاستبداد البورقيبي والنوفمبري على مدى ثلاثة عقود (من 81 إلى 2011…حالات الهدنة كانت خاطفة)، في حين كانت أغلب القوى الأخرى (بداية من الثمانيّنيات) إمّا متفرّجة أو مشاركة للنظام في سياساته بدرجات مختلفة. فضلا عن أنّ الإسلاميين أنفسهم لم يستفيدوا من نفي مناضليهم لأكثر من عشريّتين إلى كلّ بقاع الأرض ومنها البلاد الأوروبيّة وكندا والولايات المتّحدة بلاد العلم والمعرفة والتقدّم التقني والاجتماعي. ولم يلاحظ منهم استعداد في عالم الفنون والسينما والاقتصاد والتخطيط والاستراتيجيا والبرمجيّات والإدارة والدولة وإنتاج المعرفة…