حين التقيتُ بالمخرج الشاب عبد الله شامخ في نهاية السنة الماضية كان ذلك أوّل لقاء بيننا. ولم تكن لي به معرفة سابقة. وكنّا تواعدنا بالهاتف على لقاء في إحدى مقاهي وسط العاصمة. ولم نأخذ وقتا طويلا في تبيّن ما سيكون بيننا من تعاون، بعد أن عرض عليّ في تلخيص مركّز ملابسات الفيلم الوثائقي وأطواره وفكرته الأساسيّة، وهو من النوع الوثائقي الطويل. وهو فيلم عن شعب أديكرو في غابة بوبوري بالكوت ديفوار. وكان المطلوب منّي نقل الحوارات والمقاطع السرديّة في الفيلم إلى العربيّة (Sous-titrage).
اطّلعت على الفيلم وقد اكتمل عملا توثيقيّا مشبعا برؤية فنيّة سينمائيّة منكّهة بالأنثروبولوجيا وعشق أفريقيا، فاجتمعت فيه شروط تَمَثُّلٍ آخر لإفريقيا يخرج عن تمثّل مستعمرها القديم المتجدّد وما رسّخه من صورة عنها لا يكفّ عن الادّعاء بأنّها تطابق إفريقيا في ذاتها. وكأنّها صورتها الوحيدة.
رسالة الفيلم
رسالة الفيلم الوثائقي الأخّاذ- فكرةً وتقنيةً- السينمائية هي إماطة اللثام عن وجه إفريقيا الذي غطّته العولمة بحجابها الكثيف. فغدا الفيلم أشبه بالحفر الأركيولوجي في ذاكرة ثريّة لها القدرة على الاستمرار وتأكيد جدارتها، وأن تكون "ثقافة اللوو"، وهي الثقافة الأهلية، قادرة على نحت حداثتها الخاصّة بها في عالم لم يفلح بعد في إدارة تنوعه واختلافه خارج الهيمنة والخضوع .
ينفتح الفيلم بإطلالة على غابة "بوبوري" فيحلّق المشاهد مع حامل الكاميرا فوق خضرتها الممتدّة أين يعيش شعب أديكرو، ويرافق الصورةَ المبهرة صوتٌ دافئ، بقدرما يوحي بالثقة في النفس يُشيع في الأفق طمأنينة عارمة، وكأنّه يصرّ على مرافقة المُشاهد والنزول معه برفق إلى مساربها الملتوية بين أشجارها المتشابكة ليكون دليه إليها وإلى عوالمها البديعة.
ولم يكن هذا الصوت سوى صوت الأب المعلّمPierre Latt يأخذ بيد المشاهد إلى الغابة وشعب "الأديكرو" وعوالمه وأسطورتة المؤسسة. فلكل شعب أسطورته المؤسسة تتناقلها الأجيال كابرا عن كابر عبر الرواية، وكأنها بطاقة هويته الوحيدة المعبّرة عنه والجديرة بتمثيله.
تبدأ أسطورة التأسيس بإمرأة كانت وراء انبعاث هذا الشعب، فكأنّه « في البدء كانت المرأة »، ولا غرابة فكثير من النقائش المتناثرة في أرجاء الأرض تشهد بالأصل الأمومي للمجتمعات. وفي كتاب جماعي حمل عنوان « مجتمع الذكور » يشير الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي معتمدا مصادر أركيولوجية شتّى إلى أنّ الإنسانية لم تعرف المجتمع الذكوري إلاّ منذ ستة آلاف سنة من تاريخها الممتدّ.
لا يخفي الأب بيار لات ضجره من الصورة التي يحملها الآخر عن شعب الأديكرو وعن أفريقيا، و اجتهد في تسريبها إلى جيل الشباب .
يظهر الأب المعلّم في الفيلم كآخر "أنبياء الغابة" متوجّها إلى مجموعة من الفتيان معدّلا الصورة وهو يشرح طقس « احتفال الأجيال » ودوره في بناء شخصياتهم وهويتهم وما تعرفه في الحاضر من اضطراب. فيقول: هناك صراع أجيال…ويعتقد الجيل الجديد أنّ ما نمارسه شيطانيّ… » ويضيف مشيرا إلى مصدر هذا الحكم المعياري القاسي على ثقافة بأسرها لمجرّد أنّها تختلف عن السائد المعولم : يقال لكم إنّ كلّ ما نقوم به ـ نحن الأفارقة ـ هو عمل شيطانيّ ».
احتفال الأجيال
ينقل الفيلم رسالة الأب المعلّم بيار لات بأناقة عالية، من خلال عرض "احتفال الأجيال" باعتباره طقس عبور على الشاب أن يقطعه ليكون فتى ومحاربا ويخرج من مرحلة الطفولة التي تتبع العالم النسوي ودوره في شعب الأديكرو. فـ« هؤلاء الشبّان أشبه بالنساء، لأنّه لا سلطة لهم ولا قرار » كما يقرّر الأب الوقور ناطقا باسم قيم الجماعة وذاكرتها. وفي هذه المهمّة تستمرّ أو تتوقّف زعامته وزعامة كلّ قيادة مصعّدة. فعند شعب أديكرو « خادم القوم سيّدهم » أيضا.
لا يخرج « احتفال الأجيال » عن فكرة « طقس العبور » لعالم الأعراقArnold van Gennep واجتهاده في التقاط « كليات الاجتماع البدائية » ومنها هذا الذي أطلق عليه اسم طقس العبور. والتسمية تفسّر نفسها بنفسها ، فهي تشير إلى عادة وتعبير متكرّر باجتياز عتبة اجتماعية أو رمزية أو تعبديّة. وتظهر في المراحل التي يمرّ بها الفرد من الطفولة إلى الشباب وصولا إلى الكهولة والشيخوخة. وكذلك الجماعة في حربها وسلمها وقلّة عددها وكثرته وفي حالات الندرة و الوفرة في موارد العيش وكلّ مجالات التبادل. ويعبّر الطقس عن نفسه في احتفلات دورية موسمية، فيما يعرفه الفرد والجماعة من تحولات دورية. وهي ليست خاصّة بمجتمعات ما قبل الدولة إذ تتسرّب إلى المجتمع الحديث في شكل أعياد واحتفالات وطنية تشرف عليها الدولة وتحتكرها. وهي لا تختلف في رمزيتها عن الاحتفالات التقليدية رغم مسوح التحديث والعقلنة والعلمنة. ويتوقّف ريجيس ديبري رائد الميديولوجيا عند عبارة الدين في اللاتينية العالية (religio) فيجدها تدور على معنيين: الآلهة والاحتفالات، ويشير إلى أنّ المعنيين أك ما يظهران في التجربة السوفياتية من خلال تماثيل الزعماء العظيمة المنصوبة في قلب المدن، وفي حشود الحزب الشيوعي المهيبة في الساحة الحمراء في ذكرى الثورة الدورية، وما يميّزها من خشوع طقوسي.
الطقس والهويّة
يقول "الأب بيار لات" عن الأجيال:« البِيضُ يُجيدون الكتابة ويستخرجوالوثائق، ولديهم بطاقات هويّة أمّا نحن، ولأنّنا لا نعرف الكتابة والقراءة فإنّ "احتفال الأجيال" هو ثقافتنا وهويّتنا » وهو لا يعني بالبيض العرق وما يمكن أن يوحي به من معاني العنصرية، وإنّما ثقافة الرجل الأوروبي التي تمّ تنصيبها على أنّها "الثقافة الإنسانية". فاللون الأبيض هنا يشمل السود الإفواريين الذين تبنّوا العولمة ورضوا بها بديلا عن الثقافة الوطنية الإفريقية.
ويشير احتفال الأجيال إلى الطبيعة الشفوية لشعب الأديكرو وعدم معرفته بالكتابة، ولكنّ طقس احتفال الأجيال يمكّن من معرفة عمر كل فرد عاش الطقس، فهو وغيره من الطقوس بمثابة السجلّ الذي يقيّد كلّ شؤون القبيلة ويخلّدها. وهذا معلوم في كل الشعوب المسماة بدائية والتي تعتمد الحفظ والذاكرة. حتّى أنّ المعرفة هي ما نتذكّره.
ومن خصائص شعب الأديكرو، مثل كل شعوب ما قبل الكتابة، قدرته العجيبة على الحفظ. فهناك من يحفظ الملفوظ، سواء كان حكمة أو حكاية أو شعرا، من سماع واحد. ومثْله مُلاحظ اليوم بوضوح في بلاد شنقيط، وعرفت البداوة العربية مثله.
واحتفال الأجيال الموسمي طقس يشبه "الدورة المغلقة" يشهد فيها الشاب سلسلة من الاختبارات الطقوسية من تغيير لباس وحمل سلاح وتعميد وصلوات وامتحان في الصبر والشجاعة (الصمود أمام المُقنّع)، والقاعدة أنّه « إذا عشت "الاِحتفال"، وصمدت في ظّلمة اللّيل، فإنّك ستقوم بكلّ ما يطلب منك مستقبلا ».
وينتهي الحفل عند ما يشبه "التخرّج" في الكليات الحربية، ونتيجته العبور من عالم الطفولة والعالم الأنثوي النسوي إلى عالم الذكورة والفتوّة، فيصبح الشاب محاربا مكتملا من فتيان القبيلة، وكامل المواطنة.
الديمقراطيّة الأخرى
شعب الأديكرو شعب شفوي جماعي محارب، والحرب فيه إنّما هي من أجل السلام، وقد ترددت عبارة السلام على لسان الأب بيار لات في أرجاء الفيلم، وخاصّة في اللحظة التي يتعلم فيها الشبّان فنون القتال وأدواته. ويشترك شعب الأديكرو مع ما اطلعنا عليه من تجارب مماثلة في الجماعات البدائية في غابات الأمازون، وفي البداوة العربية قبل الإسلام. ونفاجَأ بأنّ الحرب، وهي الوجه الأبرز لهذه الجماعات والحدث الأشدّ تواترا فيه، لم تكن بسبب صراع عبثي مستدام على موارد نادرة في ربط لا دليل عليه بين الجوع والحرب. فإذا كانت هذه الفرضية ممكنة في صحراء قاحلة فإنّها لا مصداقيّة لها في مجتمعات غابات الأمازون وغابات أفريقيا الاستوائية، ومنها غابة بوبوري المقدّسة.
ويذكّرني الصديق عبد الله شامخ وهو يتجوّل بكاميراه في هذه الغابة ومعايشته لشعبها بالأنثروبولوجي بيار كلاستر في غابات الأمازوزن وهو يسجّل بقلم وبآلة تصوير بدائية حياة شعب الـGuarana، وشعب الـChilipi على مدى عشر سنوات، لينتهي إلى "ديمقراطية أخرى" تختلف عن ديمقراطية أوروبا، وصار الآخر ليس البدائي وإنّما "رجل الدولة" القادم من وراء البحار والذي فشل في إقناع البدائيين بأمرين: المسيحية والتجارة.
لم يتح لبيار كلاستر (1934- 1977) أن يعايش العولمة في أعلى مراحلها كما أتيح لعبد الله شامخ أن يعاين أثرها على شعب الأديكرو في "الغابة المقدّسة"، أين التقط بنباهة دور "احتفال الأجيال" باعتباره مقاومة ثقافية قيمية للعولمة وما تقترحه من انتظام سياسي عمودي منافس لانتظام سياسي أهلي أفقي مشدود إلى "ديمقراطية أخرى". يمثل احتفال الأجيال طقس العبور إلى المواطنة في هذه الديمقراطية المختلفة، وهذا ما يلحّ عليه الأب بيار لات نفسه في كل مداخلاته.
والمعنى نفسه نجده في تقييدات الجغرافي الفرنسي Léon Pervinquière (1873-1913)، عمّا يسميه « كونفدرالية ورغمّة » بالجنوب الشرقي التونسي، موطن مخرج "الغابة المقدّسة". ورغم أنّ قلم Pervinquière جاء رافدا لدبّابة المحتلّ الفرنسي، فإنّه لم يقدر على إخفاء إعجابه بـ"ديمقراطية أهلية" مشروطة بالحرية يخشى أن تتفوّق على ديمقراطية فرنسا المشروطة بالاستعمار.
سؤال الدولة والتحديث
يطرح هذا العمل الوثائقي المتميّز بعمق مسألة الدولة والتحديث في أفريقيا وبلادنا منها وإليها. والموقف ليس من مبدأ التحديث وإنّما من طبيعته المُسقطة وقفزه على الشروط الثقافية للشعوب. وما أفضت إليه هذه المنهجية من نموذج هجين لا هو بالحديث ولا هو بالأصيل.
كل ذلك يشهد بفشل "النمذجة" وهي إحدى ركائز العولمة، ومن بين أسباب أزمة الدولة الحديثة البنيوية. وأنّ الحداثة ليست بضاعة تستورد بقدر ما هي عملية تفاعل وتأسيس قوامها معادلة فذّة بين مكتسبات الذكاء الإنساني والقيم الجامعة والثقافة الأهليّة، وأن تصوغ كل تجربة حداثتها من خلال نظامها القيمي والرمزي ومنواله الثقافي. ويسري هذا على تجربة الدولة في أفريقيا والبلاد العربية وما كان يسمّى بالعالم الثالث. وهي دولة مركزية في غالبها عاجزة عن تغطية كل مجالها الثقافي والاجتماعي. لذلك فإنّ ما كان من انتفاض مواطني اجتماعي مع 2011 في المجال العربي يأتي محاولة لتجاوز هذا الانقسام المصاعب بسبب مركزية الدولة وتبعيتها وضمور شروط السيادة والسياسات الوطنية. وعند هذا المستوى يطرح مهمة جليلة تتمثل في إعادة بناء الدولة وإخراجها من مركزيتها لكي تغطّي كل مجالها، فتخرج من جهويّتها وتكون جديرة بالصفة الوطنيّة لأول مرة في تاريخها، وهذا ما يساعد على بناء تصوّر جديد للتنمية يقوم على تحويل القيم الشعبية والرحبة والثقافة الأهليّة إلى قيم تنموية. ويعبر عنه بالتنمية المحلية المستدامة جوهر الحكم المحلّي.
"الغابة المقدّسة" فيلم وثائقي فاز بجائزة مهرجان الفيلم الأفريقي في دالاس الأمريكية بدورته السادسة في جوان الفارط وبجائزة أحسن فيلم وثائقي طويل بمهرجان استكهولم للفيلم المستقل في الأسبوع الماضي. ومرشّح في تقديرنا لحصد جوائز أخرى.
هو فيلم منعرج بلا مبالغة. وهو جزء من عمل وثائقي دؤوب تقوم عليه مؤسسة Folkstories company لفائدة الجزيرة الوثائقية. وقد نجحت في ترميم الذاكرة الوطنية من خلال نفض الغبار عن شخصيات وأحداث لم تجد مكانها الطبيعي واللائق في سردية دولة الاستقلال. فكانت أعمال "لزهر الشرايطي..أسد عرباطة "، و"أحمد التليلي ذاكرة الديمقراطية" و"باي الشعب" سلسلة من أفلام وثائقية تفتح أفقًا لسردية وطنية مُنصِفة تسَع كل الجهد التحرري والنضالي والإبداعي وترمّم ذاكرة الوطن المشروخة، لترسي عند مشترك ينهي التفاتها إلى الماضي ويمنحها فرصة التركيز على القادم.
ورغمّة، جوان 2021