بعد انقلاب 25 جويلية عاشت السياسة " بهتة أولى ". ومثلما أنّ الشعب لم يهبّ احتفاء بالحركة الانقلابية كما يدعي الانقلاب وإعلامه النوفمبري، فإنّه لم يخرج دفاعا عن الديمقراطية. بعد 52 يوما كان الردّ بحراك مواطني مقاوم أمكن له بعد سنة من الكفاح الميداني أن:
1 - يُسقط أطروحة التفويض الشعبي ويدحض سردية الانقلاب الشعبوية.
2 - يقود شارعا ديمقراطيا وازنا شعبيا يدافع عن الديمقراطية، في مقابل بقاء شارع الانقلاب " وجودا افتراضيا" لا حضور له إلا في خطاب الشعبوية المتهافت.
3 - يرسّخ حقيقة الصراع الفعلي على أنّه صراع بين الانقلاب والديمقراطية، ويدحر كذبة تصحيح المسار وكل ما عاضده من تعبيرات .
4- يبني الشرط السياسي ممثلا في جبهة الخلاص الوطني ويقدّمها إطارا وطنيا بمهمّتين: إزاحة الانقلاب وإعداد البديل الديمقراطي.
وكانت هذه مهمة مواطنون ضد الانقلاب الأولى المُنْجَزة.
عاشت السياسة « بهتة ثانية » بعد انتخابات 17 ديسمبر 22. وقد كانت خلاصة لفشل ذريع للاستشارة ومقاطعة شعبية واسعة للاستفتاء على دستور سعيّد، من ناحية، ونتيجة للعجز السياسي المطلق لسلطة الانقلاب ومنظومته. وبلوغ البلاد حالة الانهيار المالي وتفكك المؤسسات وتدهور مرافق الدولة الأساسية من تعليم ونقل وصحة وتعطّل أهم منظومات الإنتاج الأساسية.
نتيجة الانتخابات والمقاطعة الشعبية الواسعة كانتا كافيتين لإنهاء الانقلاب، ولكن بسبب غياب الشرط السياسي الوطني لم يعقب « البهتة الثانية » ردّ الفعل المطلوب وتواصَل تفرّق قوى المعارضة وتأجيل اجتماعها على الأدنى الديمقراطي وتقديم بديل ينقذ البلاد.
تأخّرت ردة الفعل المناسبة رغم الإجماع على أن الإنقاذ ضرورة وطنية.
ومع ذلك لاحت ردة فعل مواطنية، مرة أخرى، رغم جزئيتها ومحدوديتها، وهي في حقيقتها جذوة من روح مواطنون ضد الانقلاب. فكانت مهمة مواطنون الثانية.
وقد امتدت هذه المهمة (في تمفصل مع جبهة الخلاص) من "كسر الطوق عن الشارع الديمقراطي" باتجاه التقاطع مع مواقع سياسية أخرى مناصرة للديمقراطية وباتجاه القوى المُنفضّة من حول الانقلاب وما أتته من مراجعة لفائدة الدفاع عن الديمقراطية، إلى فتح ندوات/ حوارات ثرية بين النشطاء والأكاديميين والشخصيات الوطنية وصنّاع الرأي تحت عنوان" الطريق إلى استئناف الديمقراطية بمرجعية دستور 2014".
وقد توفّقت هذه الحوارات وغيرها إلى خلاصات مهمة كان من بينها الورقة السياسية التي تقدّم بها الأستاذ عصام الشابي في ندوة "المبادرات السياسية وممكنات التوافق الوطني"، وقد دعا فيها إلى مؤتمر وطني للإنقاذ يجمع كل أنصار الديمقراطية لاستئناف مسار بنائها على قاعدة دستور 2014، ويكون ذلك مقدمة لحوار وطني شامل يُخرج البلاد من أزمتها الخطيرة.
انتخابات 29 جانفي 2023 تحمّل القوى السياسية المدافعة عن الديمقراطية المسؤولية الكاملة في أخذ زمام المبادرة في اتجاهين:
1 - مسارعة كلّ القوى المناصرة للديمقراطية إلى الاتفاق على إطار التقائها (مؤتمر وطني للإنقاذ والبديل الديمقراطي على سبيل المثال) بناءً على المشتركات الجامعة، استعدادا لما بعده.
2 - إعداد الشارع الديمقراطي ليكون القوة الأساسية الميدانية لإيقاف الانهيار بدعوة المنظمات المدنية والقوى السياسية إلى الالتقاء على فكرة الإنقاذ، ودفْع كل مؤسسات الدولة إلى تجديد التزامها بدستور الجمهورية التونسية/ دستور 2014 وبنظامه الديمقراطي وبكل ما يضبطه من مهام ومن علاقات بينها في صلب الدولة.
لا يوجد اليوم إلا عرض واحد (ومبادرة واحدة) في مواجهة الانقلاب. هو عرض استئناف مسار الديمقراطية بمرجعية دستور 2014، وهو موقف سياسي يجمع قوى مهمة وقد يتوسع ليشمل جانبا من منظمات يستعدّ بعضها لصياغة مبادرة يُتوجَّه بها إلى انقلاب فاقد للشرعية والمشروعية (ممسطها عبارة) ولا يقبل حتى بمحاوره أنصاره. وقد يجد أصحاب مثل هذه المبادرات أنفسهم مجبرين على الالتحاق بالقوى الديمقراطية في شروط غير الشروط.
الشارع الديمقراطي بما يعرفه من توسع في أكثر من اتجاه صار من ثوابت حلّ الأزمة وما سيكون من ترتيبات عند كل من له صلة بمستقبل تونس من القوى المحلية والإقليمية والدولية.