أسوأ ما يمكن أن ينجرّ عن جلسة البرلمان استقالة الفخفاخ بسبب ملفّ تضارب المصالح الكارثة، ففي استقالة الحكومة في هذا الظرف لن يكون إلاّ مقدّمة لإسقاط "مبدأ مكافحة الفساد". وهذا مطلب المنظومة الدائم وسبب تحرّكها الواضح في هذا الاتجاه واستثمارها في تخبّط الائتلاف الحكومي. وهي ترى في اهتزاز رمزية من يمثّله من وزراء الائتلاف الحكومي سياقا ملائما لتفرض فيه "المصالحة" بشروطها.
وفي كلّ هذا تسفيه لاتجاه انتخابي واضح في 2019 وخسارات سياسيّة وأخلاقية لا يعادلها إلاّ طعن مسار العدالة الانتقالية من داخل هيئة الحقيقة والكرامة وخارجها.
أكثر المبتهجين بما يحدث هو الشاهد لما يمثّله كلّ هذا من فرصة لم تكن منتظرة لفكّ الخناق المضروب حوله نتيجة سياسته في رئاسة الحكومة وما تعلّق بها من شبهات فساد وإضرار بالدولة ومواردها ومؤسساتها. وكان حاول فكّه بمسرحيّة "عملية قرطاج" سيّئة الإخراج، وقد يراوده الأمل في هذه المستجدّات بالعودة إلى رئاسة الحكومة…
موضوعيا كأنّ الجميع في خدمة رئيس الجمهوريّة ومساعدته على افتتاح مجاله السياسي الموازي. وهو لا يفتأ يذكّر بعزمه على تنفيذ مقترحه الشكلاني من موقعه داخل الديمقراطيّة التمثيلية الهشّة وبأدوات الدولة. يتواصل كلّ هذا حتّى بعد "إعلان باريس".
لم أجد تفسيراً لسلوك الائتلاف الحكومي وأخصّ أحزابه الثلاثة وعجزها عن التمييز بين الجزئي والمبدئي في بناء المواقف. وعدم جديّتها في ألاّ يُفضي مسار مكافحة الفساد إلى "إسقاط مبدأ محاربة الفساد".
الموقف من محاربة الفساد مبدئي أولا يكون، والجميع سواسي أمام القانون وأولهم رئيس الحكومة، ولكن أن يهدِّد أداءُ الحكومة في ملفّ الفساد مبدأ محاربة الفساد فذلك من العبث.
إلياس الفخفاخ وحكومته بدت لنا الأقدر منذ 2011 في استيعاب الملفات وفي مستوى عرضها ووضوح منهجية تقديمها. وحكومته هي الأكثر تمثّلا للبعد الاجتماعي في برنامجها وبضرورة الخروج من التوافق إلى الإصلاح.
ومع كل هذا فإنّ الفخفاخ حشر نفسه بسبب ملفه في زاوية حادّة، ولم يوفّق في عرضه أمام البرلمان . وكان بإمكانه أن يكتفي بالإشارة الموجزة إلى أنّه صار من أنظار القضاء ولجنة التحقيق البرلمانية. ولو كان الوضع السياسي بشروطه الداخلية والإقليمية في استقراره الأدنى لكانت الاستقالة الفورية هي الموقف الوحيد.
المفروض أن يتقاطع موقف الائتلاف الحكومي في دعم رئيس الحكومة وترك التحقيق يأخذ مجراه وتجنّب فكرة الاستقالة. وأن يُتَخَلّى بوضوح عن فكرة توسيع الحزام الحكومي في هذه المتغيرات المتتالية.
هذا تقدير يسعى إلى صياغة معادلة صعبة تجمع بين المبدأ وتجنّب إسقاط المبدأ، رغم ما سيصاحبه من خسارات أخلاقية وسياسية. لأنّ سقوط المبدأ سيضعنا ما دون نقطة الصفر. ويبدو لنا هذا التقدير الأقل ضررا في إطار الشروط الممكنة.
المواقف المبدئية والجذرية نعرفها، وليس هذا الحيّز مجالا لعرضها والتباهي بها بقدرما هو سياق لتصريفها واجتهاد في تنزيلها.
أرجو ألا تكون هذه آخر تدوينة حول هذا المشهد المضني، ولم يكن يوجهني في مقاربته إلا حافز واحد: دعم ما أعتقده شروطا في تأسيس الديمقراطيّة والاختيار الشعبي الحر، بمعزل عن كل "الفاعلين" الحزبيين...ولكن يبدو أن المشهد أكثر تعقيدا وشروط الارتهان الداخلي والخارجي بلا ضفاف