تقوم المجتمعات الديمقراطية الحديثة على علاقة توازن بين الدولة والمجتمع تنظّمها الدساتير والقوانين لخدمة الصالح العام وتجويد العيش وتنظيم الاختلاف... هذه البنية الثنائية هي شرط الاختيار الحر والتداول السلمي على إدارة الشأن العام.
في حال ضعف الدولة يختل التوازن وتكون مقدّمات الاحتراب الأهلي. وفي حال تعملق الدولة على حساب المجتمع تكون الدكتاتورية، وهي الحكم بالقانون الذي يصوغه القويّ.
نظام الاستبداد العربي ثلاثي البنية، إذ تقوم قوّة ثالثة فوق الدولة والمجتمع، أي فوق القانون لتحكم الناس باسمهم وباسم مصلحتهم، وهي لا تتردّد في أن تخالف القوانين التي وضعتها على هواها. وهذا هو نظام الاستبداد.
الثورة في تونس كسرت نظام الاستبداد (الدولة، المجتمع، بن علي) لتحل محلها بنية ثنائية كانت شرط الانتخابات الحرة لأول مرة في تاريخ تونس، ومقدمة إلى بناء نظام سياسي ديمقراطي.
ما قام به قيس سعيد هو هدم بنية الديمقراطية الثنائية واستعادة بنية الاستبداد الثلاثية وبأكثر تخلفا حين جمع كل السلطات بيده وأعلن حكم الفرد المطلق. وهي بنية مانعة للاختيار الشعبي الحر، ومقدّمة إلى التخلف السياسي والانهيار الاقتصادي والتبعية المطلقة للخارج.
كسر الانقلاب يعني كسر بنية الاستبداد الثلاثية واستعادة ما بنته الثورة من تعاقد بين الدولة والمجتمع أساسه الدستور وأفقه نظام ديمقراطي يحفظ الحرية ويصون الكرامة ويحقق الرفاه.. لذلك، وبقطع النظر عن ماضي قيس سعيّد وحقيقته، فهو بانقلابه يؤسس لنظام عبودي قروسطوي دموي عدوّ للثورة والدولة والحرية ولكرامة الإنسان.
ما حدث في مصر وما يحدث في السودان اليوم، أيًا كانت ملابساته، هو استعادة لبنية الاستبداد الثلاثية كان فيها لمؤسسة الجيش دور القوة التي تعلو الدولة والمجتمع والقانون (العسكاريتاريا العربية وتاريخها غير المشرّف).. بنية نظام الاستبداد العربي ثلاثية، وكان منذ 2011 في مواجهة مفتوحة مع تيار مواطني هدفه كسر هذه البنية وتأسيس الديمقراطية.
والاتجاه العام ومزاج الوقت سائر نحو كسر بنية الاستبداد الثلاثية، في مجالنا العربي وفي العالم، للتفرغ لقضايا تهم كرامة الفرد ورفاهه ودرجة مشاركته في إدارة الشأن العام، وتتصل بمساعدة الإنسانيّة على أمن أشمل وتعليم أرقى وصحة أفضل وعلاقات دولية أكثر توازنا..