كثيرون ممّن لم يجعلوا من الديمقراطيّة ومسارها ثابتا في فهم المشهد التونسي ارتبكوا في فهم قدرة الدولة، هذه الأيّام، على:
I - إنصاتها إلى هامشها على أنّه جزء من مجالها السياسي، واستماعها الجيّد إلى "أطروحته" في الكامور والحوض المنجمي والقصرين والكاف وقابس...وأنّ هذا هو السبيل إلى توحيد البلاد بتنمية مستدامة واكتساب الدولة صفتها الوطنيّة وخلاصها من خطيئة الجهوية.
هناك أطروحات أخرى لبعض الأكاديميين (نثق في نواياهم على الأقل) يعتبرون في إنصات الدولة إلى هامشها خطرا عليها، وهي مواقف لا تميّز في تقديرنا بين موقف الدولة وسلوكها السياسي وبين ردّ فعل بقايا "النظام المركزي" ولوبياته المتنفّذة ومصالحه القديمة والمتجددة، والتي تعمد إلى "الاستثمار المضلّل" في هيبة الدولة ودورها.
II - حدسها التحوّلات الإقليمية، وفي هذا الإطار تأتي:
1 - مفاوضات الحلّ السياسي في ليبيا. وهو حلّ ما كان ليحصل لولا التدخّل القوي للمحور التركي القطري الذي ألجم حفتر ومشروعه الاستبدادي المتخلّف وأوقف تقدّم المحور الصهيوني الإماراتي نحو العاصمة طرابلس.
وقد كان له مساندون في البرلمان والأحزاب والجمعيات والأكاديميا المتسوّلة، باسم حياد تونس عن صراعات المحاور في المنطقة. ولو نجح حفتر في طرابلس لتبرّأوا من الثورة وشهدائها، ومن الديمقراطيّة ومسارها.
حتّى الأمم المتحدة ومجلس الأمن قرآ جيّدا التحولات في ليبيا فغادرا ترددهما وكفّا عن إعطاء الاستبداد الأسود فرصة للعودة.
2 - الزيارة الناجحة لرئيس الجمهوريّة إلى قطر. والتي لا نراها إلاّ نتيجة أولى للتسليم بأنّ المسار الديمقراطي هو مشروع الدولة التونسية، وهي تعيد بناء نفسها على ضوئه، وهو ليس مشروعا حزبيا ولا فئويّا. باء إنّه لا معنى لـ"المشروع الوطني" اليوم خارج "المشروع الديمقراطي".
3 - الموقف من "زيارة قطر" (مساندةً ومناهضةً) هو في جوهره موقف من المسار الديمقراطيّ. وفي هذا السياق يأتي موقف الفاشيّة من قضية "اتحاد علماء المسلمين" المفتعلة. هو في جوهره ردّة فعل إماراتية على زيارة رئيس الجمهوريّة إلى قطر ومحاولة التغطية عليها، وخوف الفاشيّة (وحلفائها المعلنين والموضوعيين) من أنّ الشعبوية ربما "تخلّي بيها" وتقترب من الرهان الديمقراطي وتتركها وحيدة في مواجهة المسار الديمقراطي.
القوى الديمقراطيّة مقلوبة الوعي اعتبرت استهداف الديمقراطيّة وجهة نظر، وسكتت عن الفاشيّة بتعطيل البرلمان، وتقاطعت معها في الموقف، واستندت إلى الشعبوية رغم موقفها المعلن من الديمقراطيّة ومسارها.
4 - هذه القوى مقلوبة الوعي سترتبك أمام "الزيارة"، وهي لا تجرؤ على نقدها ومواجهتها، وستعبّر بنفاق عال عن "ضرورة النأي بتونس سياسة المحاور". هذا إذا وجدت ما يكفي من الشجاعة. وستضطرّ أبواقها الإعلاميّة إلى اعتبار "الزيارة" اختراقا من مؤسسة الرئاسة لاحتكار العلاقة بقطر من جهات معلومة.
ولكنها لا تستطيع أن تجيب عن سؤال: ماذا لو كان هذا الاختراق في خدمة الديمقراطيّة ومسارها وتخلّياً عن هلاميات سياسيّة مفوّتة ومجالسيّة ساذجة؟؟!!!
مرجعيّة الديمقراطيّة واستكمال مسارها ليس موقفا سياسا فحسب، إنّه تقدير يرتقي إلى منزلة "المنوال" والمفتاح الذي تحلّ به عديد الأقفال. فقضية الصحراء الغربية المفتعلة يمكن (بل الأسلم) مقاربتها تونسيا من وجهة نظر "مشروعنا الديمقراطي" وبأفق "مغرب عربي ديمقراطي".
أحد أمناء الأحزاب المحسوبة على الديمقراطيّة المنزعج من حسن انتباه الدولة (محاورة الهامش، "الزيارة "، مفاوضات الحلّ السياسي ليبيا)، يصرّح البارحة (نقلا عن الشارع المغاربي) بأنّ "كل شروط الثورة الثانية متوفّرة" (ههههه)
مهمّ جدّا أن تتطوّر مؤسسات الدولة الثلاث (رئاسة، حكومة، برلمان) وإن بدرجات متفاوتة نحو التمفصل مع المسار الديمقراطي ومهمة استكماله...الديمقراطيّة عقلها الغلاّب وعنادها الأسطوري، ومن يتولّ يستبدل الناس خيرًا منه...اركب لا تمنّك.