للانتقال الديمقراطي الذي نعيش في بلادنا خصوصيته بلا شك، ولكنّه في الوقت نفسه لا يخرج عن كليّات عامة للانتقال الديمقراطي منها دور النخبة في مسار بناء الديمقراطية. ويتمثّل هذا الدور في إيجاد التسويات الضروريّة بين القوى الفعليّة المتقابلة. والمقصود بالنخبة هنا المثقفون والأكاديميون ونشطاء المجتمع المدني، وليس السياسيين وزعماءَ الأحزاب ومناضليها.
فالأصل هو أن ما تخلّفه المنافسة السياسية وصراع المواقف والمواقع من شروخ في الطبقة السياسية يكون دور المجتمع المدني وصناع الرأي والفكر رأبها والتخفيف من آثارها على وحدة المجتمع.
وإذا كان دور الناشط الحزبي أن يُعبّر عن وجهة نظر حزبه ومصلحته ويدافع عنها فإنّ دور المثقّف والأكاديمي أن يقول الحقيقة بما هي تعبير عن المصلحة العامة وإن خالفت قناعته الخاصّة.
ولكنّ الذي عرفته عشرية الانتقال أنّ المجتمع المدني لم ينهض بدوره المطلوب وسارع بعد الثورة إلى تقمّص دور الأحزاب وخرج عن هويته المدنية. وصار طرفا سياسيا. وتخلّف الأكاديمي عن قول الحقيقة.
والأهمّ هو أن المجتمع المدني في تونس كان، بأدائه الحزبي الإيديولوجي، مناهضا للديمقراطية وهذا ما أقرّ به مموّلوه من الغرب الأوروبي والأميركي.
المجتمع المدني في بلادنا لم يكن مدنيا، وهو في حقيقته صنيعة الدولة وأداة نظام الاستبداد الذي سكنها.
لم يبذل المجتمع المدني جهدا في اكتشاف دوره الطبيعي، بعد الثورة وتحت سقف الانتقال ودستور الثورة الديمقراطي. ودعي في 2013 لكي يكون راعيا للخروج من أزمة كان طرفا فيها ومن المتسببين في استفحالها.
وتواصل هذا الدور بعد الانقلاب. فالاتحاد مازال متمسكا بسقف 25، ولم يصدر عن بقية المنظمات الحقوقية مواقف تنسجم مع هويتها ودورها. وليس مطلوبا من منظّمات المجتمع المدني أن تتخذ موقفا حزبيا من الانقلاب وإنّما أن يكون لها موقف قطاعي بمرجعية دستورية يمكّنها من أن تلعب دورَ رأب الصدوع داخل المنافسة الحزبية والسياسية في خدمة الاختيار الشعبي ومسار بناء الديمقراطية.
المفروض أن يكون موقف مواطنون ضدّ الانقلاب في حركتها الأولى الرافضة للانقلاب (على قاعدة مرجعيّة دستور 2014 وتمثيلا لحراك "ما فوق حزبي") موقفا من قِبَل منظّمات المجتمع المدني وقبْل الأحزاب السياسيّة.
وأن يكون ما تطلقه نواتها المؤسسة في حركتها الثانية اليوم من لقاءات بين فرقاء الطبقة السياسيّة والبحث عن مشتركات لإخراج البلاد من الأزمة الطاحنة وتهيئة شروط استئناف الديمقراطيّة مبادرةً من منظمات المجتمع المدني.
وقد أديرت إلى حدّ الآن ندوتان اشتغلت الأولى على حقيقة أزمة الانقلاب وملامح الحلّ الوطني. وأمكن من خلال المداخلات وضع ضوابط لترتيبات ممكنة ولمرحلة انتقالية جديدة، واشتغلت الثانية على المبادرات السياسية العديدة فهما ونقدا. وتميّزت المداخلات والنقاشات بالدقّة والعمق وكان مدارها على ثلاث محاور رئيسية:
ـ سنوات الانتقال العشر: قراءة نقديّة
ـ مأزق الانقلاب وشروط استئناف الديمقراطيّة.
ـ النخبة والتسويات الضروريّة للإنقاذ والمرجعيّة الدستوريّة.
وكانت مداخلة الأستاذ عصام الشابي إضافة مهمّة بما اقترحته من صيغة "مؤتمر وطني للإنقاذ" تعقده القوى المناهضة للانقلاب والمنتصرة للديمقراطيّة باعتباره لبنة من لبنات حوار وطني يضمّ مبادرات شبيهة بمبادرة المؤتمر الوطني للإنقاذ قابلة للتحاور والدخول في تفاصيل الحلّ الوطني.
ما انطلق من ندوات وما سيتلوها من لقاءات حوارية دوريّة يلقى صدى إيجابيّا عند النخبة. وينتظر له أثرٌ لدى المنظمات المدنيّة والحقوقيّة (المحامون، القضاة، ...) في انتباهها إلى دورها للخروج من الأزمة المركّبة التي تتهدّد الحريّة والاقتصاد والدولة والسلم الأهلي.
لا بديل عن التسويات الضروريّة وبناء المشتركات ترعاها النخبة المواطنيّة بين القوى الحقيقية الفاعلة على قاعدة استئناف الديمقراطيّة بمرجعيّة دستور الثورة.