1
أهلنا، على أميّتهم، كان لديهم مقدرة على حسن التقدير. فيميّزون بين النافع والضارّ والخطأ والصواب في سائر حياتهم اليوميّة دليلهم في ذلك تجربتهم وخبرة السنين في علاقة بمنظومة القيم المرجعيّة الموجّهة.
وكان عندهم مقدرة على تبيّن حالات ملتبسة بين الضارّ والنافع والخطأ والصواب. ومنها ما لا يمكن أن يكون معه ضرر حتّى وإن لم يظهر نفعه. ويعبّرون عنه بقولهم" إذا ما نفَعْ ما بِيضُرّ" وهو من التقدير السياسي والحصافة في الفهم، على معنى أنّ السياسة تدبير الشأن العام بالوسائل المتاحة والملائمة.
كانوا لا يكلّفون أنفسهم التعليق على الّي "إذا ما نفع ما بيضرّ"..ويرون في الوقوف عنده "تكعرير فارغ".
2
تذكّرت هذا مع ردود الأفعال حول بيان "الطريق إلى اسئتئناف الديمقراطيّة". وخاصّة من قبل الصف المحسوب على الانتصار للديمقراطيّة ومناهضة الانقلاب من جبهة الخلاص ومحيطها. وتحديدا ممّن انتبه منهم إلى أنّ إزاحة واجهة الانقلاب لا تعني في كلّ الأحوال نهاية الانقلاب. فليس كلّ خصوم سعيد بعد أكثر من سنة ونصف من الانقلاب على الديمقراطيّة مع الديمقراطيّة واستئناف مسارها.
وفي كلمة: كلّ الجهات السياسيّة والحزبيّة والمنظّماتيّة والمصالح الداخليّة والخارجيّة قد تجد في البيان "إزعاجا"، قليلا كان أو كثيرا، إلاّ جهة واحدة هي جبهة الخلاص ومحيطها...إذ لا يوجد في البيان ما يمكن أن يكون موضوعا حتّى لمجرّد التحفّظ عليها.
3
توقّف البيان عند أمرين:
ـ ذكّر بالمبادئ الموجّهة لتجربة مواطنون ضدّ الانقلاب، وتمثّل هذه المبادئ المشترك بين أنصار الديمقراطيّة (من الجبهة إلى الشارع الديمقراطي مرورا بالكيانات الحزبيّة والمبادرات المواطنيّة والشخصيات الوطنيّة التي كوّنتها).
ـ صاغ ما اعتبره ضوابط مرجعيّة للمرحلة القادمة المنتظرة. ولم يقدّم مبادرة أو خارطة طريق وإنّما ساهم بضبط المرجعيّة التي على ضوئها يكون استئناف الديمقراطيّة. لأنّ عدم الاحتكام إلى مرجعيّة دستور 2014 في الخروج من الأزمة سيجعل من المشاركة في الترتيبات مشاركة في تأسيس الانقلاب بعد إزاحة واجهته.
إنّ الإجماع على أنّ الذي حدث انقلاب يحدّد هويّة المنقلب كما يحدّد هوية المنقلب عليه، وهو في حالتنا هذه النظام الديمقراطي ومؤسسته الأصليّة (البرلمان) وسائر مؤسسات الديمقراطيّة وأساسها الدستوري. فتكون مرجعيّة دستور 2014 في الحوار القادم تحصيل حاصل ومحلّ إجماع. ومن يرفض هذه المرجعيّة لا يكون إلاّ في صفّ الانقلاب وساعيا إلى استمراره وإن ادّعى مناهضته بمناهضة واجهته.
والبيان ومن وراءَه ليسوا معنيين بالجانب الإجرائي في تجاوز الأزمة، فهو مهمّة المجتمعين في الحوار الوطني المتوقّع والإطار الذي سيجمع فرقاء المشهد. ولهم مجال واسع للاجتهاد داخل مرجعيّة الشرعيّة الدستوريّة (دستور 2014).
4
وأمّا أن يُتقدّم بالإجراء مفصولا عن المرجع (فكرة القاضي) أو يُجعل منه بديلا عن المرجع فهذا ما نبّه إليه البيان. ولئن عمّ تنبيهُه كلّ الفرقاء فإنّه خصّ الجبهة. فالاتفاق على الجانب الإجرائي إذا تمّ دون ضابط مرجعي موحّد سيفجّر خلافات كبرى في أوّل خطوات تنزيل الاتفاقات. لأنّ كلّ طرف مشدود إلى مرجعيّته الدستورية الضمنيّة والتي ستظهر إلى السطح عند التطبيق.
الأمر الثالث في البيان، وهو من طبيعة سياسيّة مبدئيّة، يتعلّق بمواقع المشاركين في الترتيبات أو الحوار الوطني. إذ يرفض تنصيب من كان طرفا في الصراع راعيا للحوار. وقد خصّ البيان الاتحاد العام التونسي للشغل. من حقّه أن يكون طرفا في الحوار، وله أن يختار الصفّ الذي يقف فيه، ولكن لا شيء يسعفه بأن يكون حكَمًا.
عمليّا، يمكن الانطلاق من هيئة ممثلة لجهات الحوار جميعا يُتّفق حول تركيبتها وصلاحياتها على ضوء مرجعية دستور الثورة.