1
بعضٌ ممن تورّطوا في دعم قيس سعيّد لهذا السبب أو لذلك، كانوا قبل 18 سبتمبر مرتاحين نوعا ما أمام ما يوهِم من تكافؤ أدلّة بين الانقلاب وروافده الوظيفيّة ومناهضيه من المدافعين عن الدستور والديمقراطيّة. وكانوا مثل قيس سعيّد يستندون إلى "شعب متخيّل" انتفض على منظومة حكم فاسدة.
مع انطلاق الحراك المواطني وتعاظم عنفوانه ووضوح عناوينه تدريجيّا وانجلاء غايته: إغلاق قوس الانقلاب، تفاقمت أزمتهم، من خلال ما يكتبون. وأكثر ما أرهقهم تشديد الحشد المواطني على علاقة الانقلاب بفرنسا. فكان شعار "France dégage" قاطعا مزلزلا. ولم تبخل الحشود على تذكير المنقلب بهذه العلاقة فمنحته لقبا جديدا هو "بوّاس الأكتاف".
2
فكان هؤلاء المورّطون من مقاولي السياسة في حرج شديد، ولم يجدوا سبيلا للخروج منه إلاّ في "الاتجاه الجديد" للإعلام الفرنسي. فقد كتبت كبريات الصحف الفرنسيّة مثل لوموند ولوفيغاروا عن توجّه قيس سعيّد الدكتاتوري ومعاداته للحقوق والديمقراطيّة. فرأى أصدقاؤنا في هذا المنزع مخرجا وجدوه في تناقض مِن ناهضوا سعيّد والدور الفرنسي. وتساءلوا: كيف لهذه الحشود التي تلعن فرنسا بالأمس تستشهد بنقد الإعلام الفرنسي لسعيد وانقلابه؟
وهذه إثارة ساذجة لا تلغي موقف فرنسا من الانتقال الديمقراطي في تونس، بقدرما تشير إلى بدايات تغيّر في المناورة الفرنسية أمام الموقف الدولي الذي لا يرى مستقبل مصالحه في تونس إلا مع شريك ديمقراطي.
ويبدو أنّ هذا الموقف الأمريكي والأوروبي (بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا...) من الانقلاب يترسّخ قدما أمام ردّة الفعل المواطنيّة على الطريقة التونسيّة، وقد يتّجه إلى ضبط مهل زمنيّة محدّدة للعودة إلى الشرعيّة.
3
وتبقى الكلمة الحاسمة للحراك المواطني، رغم عمليّة التجريف لكل شروط السيادة وقد فاقمها الانقلاب بتدويله ملفّ الانتقال. فكما كانت الديمقراطيّة مَأْثرَة تونس ورأسمالها الرمزي الأنبل وصورتها الأبهى بين الأمم الحديثة، صار انتقالها الديمقراطي نقطة استقطاب إقليميّة دوليّة، حتّى غدا تاريخ الانتقال في بلادنا هو تاريخ محاولات الانقلاب على هذا الانتقال.
وفي هذا السياق تأني فرنسا والإمارات ومصر والسعوديّة والكيان الصهيوني. ولم يعرف مسار انتقال ديمقراطي منذ الثمانينيات من استهداف بالمستوى الذي عرفه انتقالنا. ويبدو أنّ الانقلاب الشعبوي يمثّل أشدّها ومحاولتها الأخيرة الآيلة إلى الفشل والشطب، أمام حراك مواطني أشدّ إصرارا على التقدّم نحو الديمقراطيّة والحداثة السياسيّة في شروط جديدة. ومن المهمّ التذكير بأنّ التدخّل الدولي ـ حتّى الذي الذي يرى مصلحته مع الديمقراطيّة ـ ما كان له أن يجد موطئا في تونس لولا القوى الانقلابيّة وروافدها الوظيفيّة في مشهدنا السياسي (بدرجة أولى) وتفريط القوى التي تمّ تفويضها فعبثت بالأمانة.
4
لا أعوّل على الإشارة إلى أنّ الإعلام في فرنسا حرّ وله أن يعبّر عن مصلحة فرنسا بطريقته وفي تعارض مع الدولة الفرنسية أحيانا. فهذا لا يبدو ذا قيمة. فما عبّرت عنه لوموند ولوفيغارو من نقد لسعيّد ليس منفصلا عن الموقف الفرنسي المرتبك، ففرنسا مستمرّة على تدخّلها في بلادنا ومناهضتها للانتقال من خلال بعض لوبياته القريبة من الانقلاب، ولكن"ها تناور أمام تعاظم الحراك المواطني واتجاه الموقف الدولي العام. وهي مستعدّة لكلّ الحماقات. وهذه سياستها في تونس وليبيا: قد تطأطئ الرأس أمام الحلول التي تتعارض مع مصالحها، ولكنّها لا تتورّع عن كلّ ما خسّ من وسائل في اللحظات الأخيرة. فنحن لا ننسى موقفها من ثورتنا في بداية انطلاقها، ثمّ اضطرّت إلى إعلان دعمها واحتفائها بما تسمّيه ثورة الياسمين، لتُلطّخ وجهها، في غفلة، باغتيالين سياسيين كلّ المؤشرات تدفع إلى مسؤوليتها عن الجرم.
5
في زمن الدكتاتوريّة، كانت مثل هذه الصحف تنقد بين الحين والآخر نظام بن علي وإجرامه. وفي لوقت نفسه يتحدّث رؤساء فرنسا عن "نجابة شريكهم بن علي" وعن "معجزته الاقتصاديّة" (جاك شيراك). ولم يكن نقد مثل هذه العناوين الصحفيّة الكبرى ليهزّ من مصداقيّة المعارضة الحقوقيّة والسياسيّة التونسيّة.
وفي هذا النقد كانت تجتمع مواقف حقوقيين أحرار ومدافعين عن الحريّة من الفرنسيين إلى جانب مواقف عقول الدولة الفرنسيّة وتقديراتهم التي ترى في دوران المواقف مع المصلحة مهمّتها الأساسيّة... وكلّ التحيّة إلى مساندي الديمقراطيّة من النخب السياسيّة الفرنسيّة الحرّة.
المطلوب موقف شجاع هنا أو هناك، فهذا أشرف حتّى للداعمين للانقلاب والطامعين في ريعه من مقاولينا الأفذاذ. أمّا مداومة "التشعبط" بين الحبال فمآله الهلاك المخزي.
6
وقفنا إلى جانب شروط الديمقراطيّة واجتهدنا في الدفاع عنها بما نملك طوال العشريّة، مراوحين بين الإسناد والنقدي الجذري. وهو ما أورث شعورا بالانسجام ومساواتنا أنفسنا. ومع يقيننا بانتصار الديمقراطيّة، فإنّ لحظات الانكسار التي تطرأ في مسيرة التقدّم العام نحوها مفهومة، وقد يطول أثرها الرؤية والمنهج والأسلوب، ولكنّه لا يطول مطلقا القيمة، بل يدفع إلى نهج جديد لتصريفها.
الحراك المواطني نقطة تحوّل حاسمة في تاريخ الانتقال…وسيرسخ 18 سبتمبر 2021 في ذاكرة الأجيال مثلما رسخ 9 أفريل 1938…