تقوم السياسة بما هي تنظيم للشأن العام في الثقافة الحديثة على بنية ثنائية طرفاها الدولة والمجتمع، وهي علاقة قوة بالأساس، فحين تتغوّل الدولة مقابل ضعف المجتمع وتفكك قواه تكون الديكتاتورية (وهي غير الاستبداد)، وقد تضعف في مواجهة المجتمع، لأسباب عديدة، فتكون في الغالب الفوضى إذا كانت قوى المجتمع غير مجتمعة على فكرة موحدة وهدف مشترك.
ويكون التوازن بين الدولة والمجتمع مقدّمة إلى الاختيار الشعبي الحر والنظام الديمقراطي باختلاف أشكاله. فالنظام السياسي الحديث دو بنية ثنائية.
بنية نظام الاستبداد السياسيّة
يشذّ نظام الاستبداد العربي على هذه القاعدة من خلال بنيته الثلاثيّة، فإلى جانب الدولة (هناك نقاش هل هي دولة أم مجرد سلطة) والمجتمع (نقاش طويل عريض حول طبيعته) تقوم سلطة ثالثة فوق الدولة وفوق المجتمع ومن ثمّ فوق القانون. وتكون هذه السلطة في شخص الزعيم أو العائلة وأحيانا تتمثل في مؤسسة وهذه البنية الثلاثية مانعة للتطور الطبيعي للدولة والمجتمع، وللاختيار الشعبي الحر ولكل حياة سياسية ديمقراطيّة.
ما قامت به الثورة هو الإطاحة ببنية الاستبداد الثلاثيّة ووفّرت بذلك شرط الاختيار الحر فكانت انتخابات 23 أكتوبر 2011 أوّل انتخابات حرة وشفافة ومنطلقا لبناء الديمقراطيّة. وكان مثلها انتخابات في مصر وليبيا، وأمّا في مصر فقد مكّن انسحاب المؤسسة العسكرية التكتيكي بعد إزاحة حسني مبارك تحت الضغط الشعبي من انتخابات ديمقراطيّة، قبل الانقلاب عليها. فكانت البنية الثنائية (دولة/مجتمع) التي مكنت من الاختيار الشعبي، ومثّل الانقلاب العسكري الدموي استعادة لبنية الاستبداد. ولمصر وضع خاص فرضته المؤسسة العسكرية في علاقة بالدولة، فإذا كان لكل دولة جيش فإنّ للجيش المصري دولة.
وفي ليبيا مكّن غياب السلطة (لا توجد دولة بالمعنى المتعارف عليه) من توازن بين القوى السياسية والقبلية والمناطقية كان شرطا لأجراء انتخابات ديمقراطية، غير أنّ حجم التدخل الإقليمي والدولي أخلّ بالتوازنات الجديدة الهشة فكان الاحتراب الأهلي. خلاصة الأمر أنّ التوازن بين الدولة والمجتمع (بنية ثنائية) يمثل شرط الاختيار الحر وبناء الديمقراطية.
لذلك فإن ما قام به سعيّد في انقلابه هو الإطاحة ببنية النظام الديمقراطي الثنائية واستعادة بنية الاستبداد الثلاثية، ونصّب نفسه بدستوره سلطة مطلقة فوق الدولة والمجتمع وفوق القانون وخارج كل محاسبة. وبهذا المعنى نعتبر الانقلاب وهدم النظام الديمقراطي خطيئة لا تبررها الأخطاء تحت سقف الديمقراطية. وأمام وضوح هذه الجريمة لا نحتاج لا إلى التفتيش في تاريخ المنقلب ولا حتى باعتبار استفتائه ثأرا للنوفمبرية من الثورة، وهو كذلك. منجز سعيّد وانقلابه هو الإطاحة بشروط الاختيار الحر والمشاركة السياسية وإخراج الناس من المجال العام بعد أن كانوا دخلوه بفعل منسوب الحرية المعمّد بدماء الشهداء وكفاح الحركة الحقوقية والديمقراطية على مدى ستة عقود.
هدْم النظام الديمقراطي
هدَم الانقلاب بنية النظام الديمقراطي، وهو يعمل على استهداف كلّ الحريات، وهذا واضح من خطاب التخوين والتكفير (لا يملك غيره). وإنّ ما يعرفه المشهد من تحركات في الدفاع عن الدستور وبنية النظام الديمقراطي إنّما هو من أثر عشر سنوات من التمرين الديمقراطي، وليس لما يدّعيه من "الحريات محفوظة".
وإذا كان غلب على وصف الديمقراطية وتجربتها بالهشاشة والعجز عن الدفاع عن نفسها (ديمقراطية بلا مخالب)، وعلى هذا دلائل كثيرة. فإنّها تمكنت من خلال سنوات التمرين الديمقراطي من وضع حواجز (خطاب، معجم سياسي، تقاليد مشاركة، دستور، مؤسسات…) عطّلت تقدّم الانقلاب ومهمّته في تصفية النظام الديمقراطي. وفي هذا السياق انبثقت المقاومة المواطنية دفاعا عن الدستور والنظام السياسي الديمقراطي. وكان لها منجزها السياسي في ترسيخ حقيقة الصراع (انقلاب/ديمقراطية)، ودحض سردية التفويض الشعبي، وبناء مشاريع جبهات سياسية بمرجعيّة دستور 2014. فتأكدت عزلة الانقلاب وأدلّته في فشل الاستشارة وسقوط الاستفتاء (مشاركة ربع الناخبين).
ثمّ إنّ توقيع الدساتير يكون خبرا إعلاميا وحدثا وطنيا وعالميا، ولكن من يكتب دستوره بمفرده سيمضيه بمفرده في غياب "الشعب العظيم" : هو "لا خبر" و"لا حدث". فكان "موكب التوقيع" أشبه بتلاوة نصّ في التعزية. وبدا فيه الموقّع، وهو يقف وحيدا، أشبه بمن يعزّي نفسه وحيدا في صحراء خرابه.
كانت عزلة الانقلاب قد تأكّدت بانفضاض من حوله من قوى وظيفية كانت جزءا منه التحقت بمعارضته وتطور موقف بعضها باتجاه مقاومته تسليما بحقيقة أنّ الانقلاب يقاوَم ولا يعارَض.
تبلور إجماع واسع على درْء الانقلاب لأسباب مختلفة داخل الطبقة السياسية في المجال السياسي الرسمي أين دارت تجربة "الديمقراطية التمثيلية" . دون أن يعني ذلك أنّ كل من يناهض الانقلاب هو نصير فعلي للديمقراطية. وإذا كان مناهضو الانقلاب في مستوى النخبة والطبقة السياسية قد صاروا بعد سنة من الانقلاب أغلبية فإنّ أنصار الديمقراطية مازالوا قلّة.
ويمثّل الاختلاف على شروط الديمقراطيّة أهمّ العوائق في سبيل أن تستقرّ الديمقراطية "مشتركا وطنيا"، ولكنّ مواجهة الانقلاب ستقود تدريجيا إلى اكتشاف شروط الديمقراطية، ويؤمل ألاّ يكون بلوغ هذا الاكتشاف بعد أن تكون شروط الديمقراطية جميعا قد تمّت تصفيتها.
الهدم ليس بديلا
من جهة أخرى يتأكّد أنّ انقلاب 25 جويلية 2021 لم يخرج عن مهمّة الهدم. ويبدو أنّه لا يتقن غيرها. وتلك في حقيقة الأمر خصيصة كل انقلاب. فهو حركة سالبة بالمطلق، وتحتدّ سلبيّتها في انقلاب 25 مع الخطاب الذي يؤسسه. وهو خطاب "شعبوي عامي" عاجز عن بلورة رؤية خارج معجم الترذيل والسباب والتقسيم والتكفير.
ولذلك هو عاجز عن كل فعل رغم تجميعه كل السلطات بين يديه لا يتقن غير خطاب "المعارضة الدائمة" الذي قد يسعف الشعبوية حين تكون في المعارضة ويبرّر حضورها السياسي. أو حين تكون جزءا من السلطة، ولكن بصلاحيات محدودة. وهذا ما كان عليه قيس سعيّد الرئيس وهو يعتصر صلاحيات جديدة بعيدا عن الصلاحيات التي ضبطها دستور 2014. فقد يكون في محدودية الصلاحيات ما يبرّر عند عامة الناس سياسة الترذيل والتعطيل التي انتهجها في مسار انتقالي متعثّر وأزمة مركبة بلا أفق.
لكنّ الاستمرار في بثّ الخطاب نفسه بمعجمه الفقير واستعاراته الركيكة مضافا إلى عجز كامل عن الفعل في مواجهة الأزمة المالية الاقتصادية والسياسية الطاحنة رغم السلطات المطلقة التي جمّعها ودسترها سيكون من الأسباب الأساسية في فشل الانقلاب الفعلي وغلق قوسه.
فالهدم قد يكون مرحلة في سيرة كل انقلاب، ولكن لا يمكن أن يكون احتلال الدولة وتعطيل الحياة والعجز عن الفعل بديلا. وإنّ أي مراقب للمشهد السياسي الكارثي بعد الانقلاب من خارج تونس من خلال خطاب سعيّد سيتردّد حتما في تبيّن من الحاكم ومن المعارض.
عجز الشعبويّة كامن في خطابها القائم على مواجهة بين شعب خيّر ونخبة خائنة، ولهذا نتيجتان مهمّتان أولاهما أنّها لا تستطيع أن تغادر "خطاب المعارضة" وهي تمسك بكلّ السلطة، وثانيتهما قابليّتها للتوظيف بسب خوائها وعجزها عن البناء. فالبلاد ليست فراغا في ظلّ ثورة إصلاحيّة تنشد التسويات التاريخيّة ورأب ما تركته دولة الاستقلال من تصدّعات هوويّة واجتماعيّة لا يمكن تجاوزها بعمليّة "مسح الطاولة" على طريقة الثورات الجذريّة. وهي ثورات نجحت في تصفية القديم الذي ثارت عليه، ولكنّها انتهت بعد عقود من "أحلام الثورة" إلى إعادة إنتاج نظام أسوأ من الذي أطاحت به.
نار الشعبويّة
من المفارقات أنّ عملية الهدم لم تشمل الديمقراطية ومؤسساتها فحسب وإنما تخطّتها إلى هدم عوائقها. ويتعلّق الأمر بمؤسسات اجتماعيّة ونقابيّة كانت جزءا من بنية الاستبداد والنظام السياسي ولم تكن بعيدة عن السيستام ولوبياته (اتحاد الشغل، اتحاد الأعراف...). ولقد مكّنها سقف الحريّة تحت النظام الديمقراطي من أن يكون لها كيانها الخاص وإنْ كان غيرَ معزول عن استراتيجيا السيستام. غير أنّ الانقلاب وتقاطعه مع القديم العائد يدفع إلى إعادة ضبط دورها بشروط شبيهة بالمرحلة النوفمبرية (سياسة المناولة وحراسة مصالح لوبيات المال). وفي هذا السياق تحدّدت منزلتها ودورها في اتفاق الشراكة المنتظر بين صندوق النقد الدولي وحكومة الانقلاب. وهي فيه كالزوج المخدوع آخر من يعلم.
وفي هذا السياق نفسه يُعاد إنتاج دور بوليس بن علي السياسي الذي تحوّل، بعد الثورة، إلى نقابات أمنيّة أنجزت مهمّتها بنجاح في إنهاك مسار الانتقال وهرسلة من تمّ تفويضه بالانتخابات للتسسير من القوى السياسيّة المحمولة على الجديد.
بعد الاستفتاء، يبدو الانقلاب وكأنّه ينفّذ أجندته الانقلابيّة بلا عوائق تذكر، ولكنّ سَنَة على الانقلاب أظهرت أنّ سنوات التمرين الديمقراطي العشر أقامت عقبات فعليّة وتركت تقاليد سياسيّة ونسيج منظماتي تعديلي وتشريعي ورقابي، فكان المنقلب كمن يجري في سباق عدو الحواجز، لا يكاد يقفز على حاجز حتّى يرتطم بآخر. ويمثّل ملفّ القضاء، في تقديرنا أهمّ هذه الحواجز وأخطر اشتباك له مع رواسب النظام الديمقراطي إذا أمكن للقوى المدافعة عن الديمقراطيّة جرّ الاشتباك إلى هدفها المرسوم.
الانقلاب بلا رؤية، وبدا تجميعه للسلطات في علاقة تناسب عكسي مع القدرة السياسيّة، فكلّما تكثّف السلطة أكثر بين يدي المنقلب تضاعف عجزه عن التسيير العادي لما بقي من الدولة وعن مواجهة الأزمة الماليّة الاقتصادية المنذرة بانهيار كلّ شيء. فلا الشعبويّة قادرة على الاستمرار ولا القديم المتدرّع بها يملك شروط التجدّد واستعادة نظام الاستبداد.
الشعبويّة "نار عَرْفِج" سريعة الالتهاب والانطفاء. ولا نراها إلاّ لحظة التعثّر القصوى في مسار بناء الديمقراطيّة، قبل استئناف طريقه. وهذا ما ستكشف عنه الأشهر القادمة التي ستكون فيها الكلمة للشارع الاجتماعي الذي سيستدعي حتما المجال السياسي الهامشي مفجّر الانتفاض المواطني في 2010 أين تكْمُن ديمقراطيّة تشاركيّة وتجربة اقتصاد تضامني (جمنة النموذج المنسي). فتوحيد المجال السياسي غاية يجري إليها مسار بناء الديمقراطية المواطنية السيادية.
سيدفع الاجتماعي بقيّة الشوارع وأنصار الديمقراطيّة والأجهزة وكلّ من لهم علاقة بفكرة الدولة إلى تقدير سياسي جديد وموقف مسؤول. ويبدو أنّ الاستفتاء يمثّل نهاية مرحلة من المواجهة الكفاحية الميدانيّة إلى مرحلة الإعداد الوطني للبديل الديمقراطي بمرجعية دستور الثورة.
كلّ ذلك في علاقة بسياق إقليمي ودولي متحفّز لمنازلات استراتيجيّة كبرى لا يقبل بعض فاعليه الأساسيين بأنْ تكون تونس فيها عامل إرباك.
ستكون استعادة الديمقراطيّة وإن في حدّها الأدنى انتصارا تاريخيا يتجاوز أثره تونس. وتيّارا لا يمكن أن يخطئ مجراه الذي شقّته ثورة الحرية والكرامة في 2011 في مجال عربي حالَ الاستبدادُ والاحتلالُ دون بناء كيانه السياسي الاقتصادي مثلما كان عليه الأمر في المجالات الجارة (تركيا ، إيران).