أيّا كانت الزاوية التي يُنظر منها إلى الحرب على غزة فإنّها لن تُرِيَ الناظر منها سوى انتصارَ غزة. وسواء انطرح السؤال بصيغة "هل انهزم الاحتلال النازي؟" أم بصيغة "هل انتصرت غزة؟" فإنّ الإجابتين ستكونان متقاربتين، إذ لا خلاف حول مآل المعركة ومنحاها العام. فناتنياهو لم يعد بعد خمسين يوما من العدوان يجرؤ على التلفظ بعبارة "القضاء على حماس".
وقد جعلها سقفا لحربه على غزّة مُداراةً لانكسار جيشه وكيانه في اليوم الأول من الطوفان. ومازال أثر الصدمة معلقا في سؤال لم يغادر دولة الكيان وجيشها ومخابراتها وحكومتها: ما الذي حدث؟ وكيف حدث؟
هدنة مؤقتة
وبعد أكثر من شهر ونصف من الحرب على غزة، وأمام العجز عن تحقيق أهداف عملية ميدانية في غزة صار طرح سؤال ما لذي جرى؟ وكيف حدث ما حدث؟ مثيرا لرعب الكيان. ولهذا الرعب مصدران : اكتشاف أن أداء كتائب القسام وسائر فصائل المقاومة في صدّ الهجوم البرّي استنساخ لعملية 7 أكتوبر. وخوفٌ من أنّ القبول بهدنة مؤقتة قد يحوّلها إلى هدن متدحرجة باتجاه وقف إطلاق نار دائم. وهو ما يعني في حساب نتنياهو سقوط العنوان الذي رفعه بالقضاء على حماس وتحرير المختطفين. وهو عنوان سقط عمليا منذ الأسبوع الثاني للهجوم البري الذي تظهر بوادره من بيانات الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال ونقاطه الإعلامية الغائمة مقابل إعلام كتائب القسام العسكري الموثق بالأرقام والصور عن خسائر جيش الاحتلال الفادحة في الجند والآليات.
ناتنياهو ردد مرارا بأنّ وقف إطلاق النار يعني الاستسلام لحماس. وهو بقبوله الهدنة بأربعة أيّام يعني دخوله إلى منطقة الاستسلام التي تتجاوز مستقبله السياسي البائس إلى مستقبل دولة الكيان برمتها.
هذه الهواجس تتأكّد مع اليوم مساء الرابع من الهدنة والدخول في هدنة ثانية بيومين، وقد تم فيها تبادل الأسرى بشروط المقاومة، وهي شروط أملاها الميدان بعد خمسين يوما من القتال فتحت المجال واسعا للمعركة السياسية. ولقد كان للصورة أثر بالغ تجاوز أثر النار والسلاح. فجاءت كل تفاصيل التبادل وما رافقها من ردود أفعال مُنْبِئة بتفوق المقاومة واتجاهها إلى تحقيق نصر كبير رغم ما كشفت عنه الهدنة من حجم الدمار الذي لحق مدينة غزة ومعاناتها الكبيرة بسبب شح المعونات رغم أجواء الهدنة. وهو البعد الذي يجب أن يتم التركيز عليه فمداواة جراح المدينة الشهيدة وتوفير أسباب الحياة بعد مسغبة من أهم أسباب صمود المقاومة نفسها واستعدادها لقادم الجولات.
سارع الجيش الإسرائيلي إلى الإحاطة الطبية بأسراه وفصلهم عن كل وسائل الإعلام لتجنب الصدمة التي حدثت مع أول عملية تسريح شملت أسيرتين لأسباب إنسانية في 23 أكتوبر. فكانت إشادة "يوشيفيد ليفشيتز" لحظة الإفراج عنها بحسن المعاملة والرعاية الطبية الفائقة من مقاتلي القسام مزلزلا. ومثل فزعا عند القيادة العسكرية وصدمة عند الرأي العام الإسرائيلي. فضلا عن أثره على شوارع العواصم الكبرى التي بدأت تكتشف حقيقة الكيان العنصرية ومنزعه النازي الإجرامي في حربه على غزة وأطفالها.
وفي الجهة المقابلة كان المحرَّرَون من أطفال فلسطين يُحملون وسط الحشود في بيتونيا على الأعناق وقد غدوا شبابًا يافعا مزهرا يفخر بانتمائه إلى فلسطين ومقاومتها وقسّامها على إيقاع شعار رددوه مع الجموع المستقبِلة "حطّ السيف قبال السيف/حِنّ رجال مْحَمِّد ضيف".
ملامح التصدّع
مازال العالم مشدودا إلى غزة منذ 7 أكتوبر وبدء الحرب على القطاع. وقد كانت حربين. حرب الطيران وحرب الميدان.
لم ينتصر الاحتلال في الأولى فقد جعلها حرب إبادة ضد المدنيين قتل فيها كل أسباب الحياة في غزة، وكشف فيها، لمن لا يعرفه، طبيعته العنصرية وحقيقته النازية.
وخسر حرب الميدان أمام مقاومة لها صورة واضحة عن نفسها (نحن طلاب حق ومقاتلو حريّة) ونجحت في تكبيده خسائر موجعة. وتحكمت في إدارة المعركة في تصريف جهدها بعقل عسكري فذ، رغم فوارق القوة الكبيرة بين الجهتين. وأجبرته على هدنة مؤقتة قد تتطور تدريجيا إلى إيقاف العدوان.
تعرف غزّة المدينة المقاتلة ويعرف غازيها بأنها واجهت معسكرا بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وفّر المال والسلاح والدعم الإعلامي والسياسي في معركة كان فيها جيش الكيان أداة تنفيذ مجرمة.
هذا التحالف الواسع الذي هبّ لإنقاذ الكيان وجرّف أمامه كل القوانين والمواثيق التي تجعل ضوابط للحروب والنزاعات الكبرى في العالم بدأ بالتفكك التدريجي ولا سبب سوى صمود غزة ومقاومتها. فقد أعطي الوقت الكافي للعدوان لإنجاز مهمته بتصفية المقاومة وإعادة احتلال غزة المحاصرة. وهذا ما كان تطمح إليه حكومة تحالف اليمين المتطرف بقيادة ناتنياهو قبل الطوفان. ولو تسنى تدمير المقاومة وقتل قياداتها واعتقال من استسلم منهم وتفكيك بنيتها العسكرية لطويت الصفحة ولما كانت الحاجة إلى هدنة.
كانت المواجهة وما تزال صفرية لن تنتهي إلا بانكسار كامل لأحد طرفي المواجهة. ويلاحظ حضور هذا في الموقف الأمريكي شريك الكيان في جريمة الحرب على غزة. فالرئيس جو بايدن الذي اندفع في بداية العدوان ليقف بجانب القيادة الصهيونية وتبنى كل عناوينها رغم ما عرف من توتر سابق في علاقته بنتنياهو، بدأ بالتراجع أمام استحالة القضاء على حماس، وكان آخر تصريح له، وهو يعلن سعادته بإطلاق سراح أسرى الكيان، ومنهم أمريكيون، بأنّ "هدف إسرائيل بتصفية حماس هدف شرعي، لكن تنفيذه سيكون صعباً".
تدرك حكومة الحرب الصهيونية ما تواجهه من تصدع خطير في علاقتها بجبهتها الداخلية وفي علاقتها بالدعم الأمريكي. فلم يعد خافيا ميل الإدارة الأمريكية إلى التدرج نحو إيقاف الحرب. وهي حريصة على احتواء انكسار الكيان والالتفاف على انتصار حماس وملء مرحلة ما بعد الحرب بحل الدولتين ومتاهاته في انتظار أن تجتمع شروط أفضل تسمح بالعودة إلى ما قبل 7 أكتوبر.
وتدرك الإدارة الأمريكية أنّ ما تقوم به لا يخرج عن ترشيد أدائها في سياق عملية إنقاذ حليفها. فالشارع الأمريكي بدأ يكتشف بشاعة الجريمة وتورط إدارة بايدن فيها، وصار كما لم يكن من قبل قريبا من فلسطين وحقها التاريخي. ولم يعد بإمكان الحليف الأوروبي أن يواصل مجاراته لبايدن وإدارته. فإسبانيا وبلجيكا في مواقفهما الجديدة بجرأتها المزعجة دليل على استحالة بقاء كل دول الاتحاد الأوروبي على نفس المسافة من بايدن وسياسته في غزة.
مأزق الكيان
دولة الكيان في مأزق حقيقي لم تعرفه طوال تاريخها الاستيطاني في فلسطين، لذلك اعتبر ناتنياهو الرد على 7 أكتوبر "حرب استقلال ثانية".
نتنياهو وفريق حربه بين خيارين أحلاهما مر: إيقاف الحرب وما يعنيه من استسلام لحماس، أو استئناف القتال برصيد ثقيل من العجز عن تحقيق هدف القضاء على حماس واسترداد كل الأسرى . فالشارع الإسرائيلي الذي لم يخف ارتياحه إلى الهدنة وارتباطها بتبادل الأسرى صار يسائل ناتنياهو: لماذا قبلت بالهدنة في هذا الوقت بالذات؟ ولماذا لم تقبل بعرض حماس منذ الأسبوع الثاني من الحرب على غزة وتوفر على الجيش خسائره التي لا نعلم حقيقتها إلاّ ما نقرؤه بحذر فيما ينشره الإعلام العسكري لكتائب القسام؟ ثم أين قيادات حماس وقد وعدت بالعودة بها مقيّدة بعد تدمير كل قاعدتها العسكرية؟
هناك ضغط دولي نحو تمديد الهدنة بغاية الوصول إلى إيقاف شامل للحرب، ويلعب الوسطاء دورا فاعلا ولاسيما الوسيط القطري الذي تجاوز تقريب وجهات النظر إلى دفع الطرفين بقوة نحو مقترحات عملية في ظل الشروط الحالية ومنها التمديد الثاني بيومين.
ومع ذلك فإنّ مطبّا قادما ليس من السهل تخطّيه ويتمثل في أسرى العدو من العسكريين والضباط من الرتب العالية. فشروط المقاومة في التبادل ستتغير كليا باتجاه إخراج كلّ سجناء المقاومة والحركة الوطنية الفلسطينية. وهو ما لن يقبل به الاحتلال.
ينتظر تقطير هدن أخرى بجمع شتات ما بقي من أسرى مدنيين بين أيدي فصائل المقاومة في انتظار الوصول إلى ملف العسكريين من أسرى الاحتلال. لذلك يبقى المشهد مفتوحا على كل الاحتمالات وأقربها استئناف القتال. فالصدام بين وجهتي نظر حول غزة ما بعد الحرب. يراها الاحتلال بعيون 6 أكتوبر وتراها المقاومة بعيون الطوفان.
في هذا السياق المركب والمتوتر تسجل المقاومة في فلسطين انتصارها على أكثر من صعيد.
يشهد الطوفان بانتصار غزة على الكيان الذي اختُزل في آلة قتل عمياء. وهو انتصار يتجاوز صمود مقاومتها وتفوق عقلها العسكري على أقوى آلات الفتك والدمار في العالم إلى تفوق قيمي وأخلاقي يجعل من عنوان "التحرير والعودة " الفلسطيني عنوانا يهمّ الإنسانية قاطبة وفرصة لمراجعة علاقتها بما اعتُبر مكتسبات كونية.
هدنة تؤجل الحرب ولا توقفها
التوصل إلى هدنة كان شبه مستحيل، وكان وراء إقرارها أسباب منها ما هو أساسي ويتمثل في صمود المقاومة وقدرتها على إدارة المعركة في ظروف في غاية الصعوبة، ومنها ما هو مساعد ويظهر في حالة ضعف السند من الإجماع الشعبي والسياسي حول فريق الحرب من جيش الاحتلال في مستوى جبهته الداخلية العسكرية منها والسياسية وبداية تفكك في مستوى جبهة الشركاء (الولايات المتحدة) وجبهة الحلفاء (أوروبا). هذا فضلا عما تعرفه منطقة الصراع من تحولات تُهدد بتوسّع للحرب لا يرغب فيه الفاعلون الكبار المتحفزون لمنازلات أوسع، ويفضلون جميعا الذهاب إليها بنتائج الحرب الحالية على غزة.
سمحت الهدنة التي تم تمديدها بيومين في إطار شروط الاتفاق الأول المتعلّق بأسرى الكيان من المدنيين وبأسرى المقاومة من الأطفال والنساء.
باطلاع العالم بصورة مفصلة على حجم الجريمة في حق غزّة، فقد كانت حربا على المستشفيات والمدارس ومصادر الطاقة والمياه وكل ما تكون به المدينة مدينة. ولكنها كشفت فشل جيش الاحتلال الحقيقي، وزيف ادعائه بالسيطرة على شمال غزة في جباليا ومخيم الشاطىء وتل الهوى. إذ لم يتمكن من تركيز نقاط ثابتة ومربعات سيطرة في الأماكن التي وصلت إليها آلياته. فمنطقة السرايا التي أعلن سيطرته عليها كانت النقطة التي سلّمت فيها كتائب القسام دفعة من أسراه في مشهد استعراضي قوي. هو في جانب منه ردّ على نتيناهو الذي تسلّل إلى أطراف غزة ليلتقط له صورا بين جنوده على أنها من قلب غزة رفعا للمعنويات المنهارة، وفي جانبه الآخر تأكيد على أن زمام المبادرة بيد المقاومة وأنّها في أتم الجهوزية إذا ما استؤنفت الحرب.
صعوبة تصور ما بعد الحرب ليس خاصا بجهة دون غيرها، بل يتجاوز طرفي الصراع إلى كل المنخرطين فيه بهذه الدرجة أو تلك. وتبدو الصعوبة من طبيعة هذه المواجهة نفسها ومن خصوصية "القضية الفلسطينية". وهي ولئن غلب على جولات الصراع السابقة فيها البعد المحلي والإقليمي فإنها مع الطوفان بسطت بعدها الدولي وحقيقتها الإنسانية على العالم ونظامه المنهك قيميا وسياسيا.
صعوبة تخيل ما بعد الحرب على غزة يدفع إلى احتمال أنّ هذه الحرب لن تهدأ هذه المرة قبل أن ترسو عند حل نهائي. وتبدو الحرب على غزة معركة من معارك هذه الحرب، وستتبعها معارك أخرى متلاحقة لا تَفصل بينها سوى هدن قصيرة مداها هذه المرة أشهر وليس سنوات.
في هذه المواجهة تبدو دولة الكيان الوظيفية الأكثر قابلية للانكسار والتفكك رغم ما بقي لها من عناوين القوة المادية. غير أنّ للوظيفيّة حدودها التي تنتهي عندها. ولهذا التقدير مرتكزاته في صراع المحاور وتدافع الاستراتيجيات في عالمنا الذي يعرف بدوره وضعا انتقاليا عسيرا يصعب تقدير مآلاته.
ويكفي غزّة انتصارا أنّها أقامت الدليل من خلال صمودها دفاعا عن حقها التاريخي بما أتيح لها من أدوات بأنّ القوة دون قيمة عمياء (الكيان) وأن القيمة دون قوة جوفاء (أهل فلسطين ومظلمتهم) وأنّ الانتصار يكون للقيمة حين تتصل بأسباب القوة المتاحة (المقاومة وطوفانها).