هذه الجملة وقصتها الشهيرة أفضل ما يعبّر عن عجز الأحزاب في الإقناع بدورها في مسار بناء الديمقراطيّة...وقصورها عن تفسير الأسباب العميقة في امتناع الحكم وإنفاذ السياسات ووقوف كل الحكومات المتعاقبة عند "تسيير الأعمال" بسبب من تذرّر السلطة، وانفصالها عن الحكم، وعدم توفّر النصيب الضروري للمضي في الإصلاحات المطلوبة وغياب المشترك وأولوية التسوية التاريخية بين الفاعلين الرئيسيين. والخلل في الأولويات وضعف الثقافة الديمقراطيّة…
هذه الأسباب تغيب عن الأحزاب لذلك لا تقولها في مرافعتها الضعيفة عن دورها وحاجة الانتقال السياسي إليه. وعليه تبدو مدانة أمام الشعب من قبل الشعبوية وضعيفة الحجة لا في أدائها فحسب وإنّما في الدفاع عن "وجودها" ووظيفتها المركزيّة في الانتقال السياسي إلى الديمقراطيّة.
فهي عند الشعبوية متلبّسة بجريمة "فشلها" تلبّس"زوج عيشة " البريء بكل ما يدينه...
"هات آش يفهّم الشعب" الذي لو استُفتي على حلّ الأحزاب لتحمّس لحلّها.
في مثل هذه السياقات المتلبّسة تكون الانحرافات والانحدارات…
نقدنا للأحزاب ولبنيتها الهرمية قديمٌ، ولنا فيها نصوص شواهد، وكيف أنّها مشاريع سلطة لا تختلف عن السائد...بل تجاوز نقدها إلى نقد الدولة الحديثة وأزمتها الهيكلية وإمكان انتظام سياسي أرقى وأنجع، وهو الباب الذي فتحت الثورة مصراعيه…
ولكنّ الشعبوية ليست الإجابة الصحيّة لأزمة الانتظام الحزبي والسياسي ...إنّها ردّة وانحدار عن كل هذا. الشعبوية تعيش بالخطاب وتهدّدها التجربة ومناطحة الوقائع، وكان أوّل اختبار لها تكليف إلياس الفخفاخ ومسؤوليتها المباشرة في هذا الاختيار رغم تنصّلها منه. فلتكن "حكومة الرئيس" اختبارها العملي الأكبر ومسؤوليتها المباشرة...فقد تكون الاختبار الألحّ في الوقت الأنسب لمسار متعثّر لكنه يصرّ على بلوغ غايته…
منع استهداف الدستور والديمقراطيّة مقدّم على ما سواه
مثلما كان هناك خلط متعمّد أو عن ضعف سياسي بين الصراع الديمقراطي واستهداف الديمقراطيّة ونتائج هذا الخلط الكارثية على المسار بعامّة وعلى عمل الحكومة السابقة بخاصّة، يُتعمّد هذه الأيّام الخلط بين فكرة "حكومة الكفاءات" والشروط التي تتنزّل فيها.
فالمقترح مثلما أسلفنا ليس مرفوضا لذاته، وقد تستدعيه ضرورات تحت سقف الدستور والحياة البرلمانية الحزبيّة، وإن كان هذا من القليل النادر. لأنّ اللجوء إلى انتخابات سابقة لأوانها غالبا ما يكون هو الحلّ أمام استحالة تشكيل حكومة بحزام سياسي قوي يدعم استقرارها وقدرتها على تنفيذ برنامجها، في ظل مشهد برلماني مشتّت.
ولنسلّم بأنّ هذا المقترح جاء نتيجة عجز الأحزاب وتجاذباتها وحساباتها فقط، فإنّ سياق تشكيلها والجهة التي أشرفت عليها يخرج بسفور عن الدستور والنظام السياسي ودور الأحزاب ومهام رئاسة الجمهوريّة.
لا يمكن فصل مقترح حكومة الكفاءات عن مشروع لا يُخفي تناقضه مع النظام السياسي والمنظومة الحزبيّة والحياة السياسيّة ومرجعيتها الديمقراطيّة. ويجاهر بعمله الدؤوب على تجاوزه.
هذا المستوى المبدئي وهذا الأصل تصمت عنه الأحزاب لتخوض في تفاصيل الفرع. وهو ما يطرح سؤالا جادّا عن علاقتها بالديمقراطيّة وبمسار بنائها، وينبّه إلى انحرافها السريع وتنازلها عن أساس وجودها السياسي بحثا عن مصلحة حزبيّة محدودة.
إنّها لا تريد أن تفهم أنّ درء استهداف الديمقراطيّة مقدّم على ما سواه...كي لا تشطُب نفسها…
ومن هذا المنطلق فإنّ الموقف الوحيد الممكن التزاما بالأصل وحفاضا عليه وحتّى يكون لنا رئيس حكومة فعلي لا ظلاّ لقيس سعيّد هو منع الثقة عن حكومة الرئيس، إذا تواصل الإصرار على أن تكون حكومة كفاءات تشكّل من قبل من لا حقّ دستوري له في تشكيلها ومن لا صفة له، ويعمل جاهدا على الانحراف نحو نظام رئاسوي فردي بلا أفق.
سيتكلم المخلّفون من الأحزاب عن المصلحة الوطنيّة ومصير البلاد، وهم يعنون مصالحهم ومكاسبهم وهواجسهم الوجودية والإيديولوجية.
ومثلما قبلوا بالاستشارة الكتابية المهينة وتأويل أحادي لصفة الأقدر في حكومة الفخفاخ ( كان يجب رفض ذلك بقوّة) سلّموا بإهانة الاستشارة الأخيرة المهزلة، وسيسلمون بحكومة تصريف الأعمال. فقد استمعت إلى بعضهم يتسوّل بين يدي المشيشي منح حكومة الكفاءات بعض النكهة السياسيّة بالإبقاء على بعض من وزراء حكومة تصريف الأعمال ثبتت كفاءتهم…
إذا أصررتم على الانتساب إلى الديمقراطيّة ومرجعيّتها ونظامها السياسي فكونوا في الدفاع عن الأصل مثل الفاشيّة في مبدئيتها وهي تناهضه...على الأقل.
مخّ الهدرة:
هناك فرق بين مقترح "حكومة كفايات " ضمن ما نسميه الصراع الديمقراطي بما هو منافسة سياسيّة تحت سقف الدستور والنظام السياسي شبه البرلماني. وبين المقترح نفسه بغاية استهداف الديمقراطيّة بما هو خروج عن الدستور والنظام السياسي والأدوار والعلاقات التي يحدّدها لمؤسساته التنفيذية والتشريعيّة.
والمقترح يأتي ضمن السياق الثاني، ولا يخفي أصحابه مناهضة الدستور والديمقراطيّة والمنظومة الحزبيّة والمؤسسات المنتخبة.
الدستور والنظام السياسي والمنظومة الحزبيّة ليست أقانيم وليست مطلقات ولا مقدّسات. هي نتيجة لاختيار شعبي حر وجهد جماعي وتعاقد على العيش المشترك. لا تُغيّر إلاّ بالآلية نفسها آليّة الاختيار الشعبي الحر، وهو أهمّ مكاسب الثورة. ولا تبدّل بالتسلل (بعناوين الديمقراطيّة والقسم بالأيمان المغلّظة على احترامها وصونها) إلى مؤسسات الديمقراطيّة وتقويضها من داخلها بدعاوى شعبوية. وحتّى هذه الدعاوى لا مانع باسم الديمقراطيّة أن تُعرض في المنافسة السياسيّة والاستحقاقات القادمة، لا بالمخاتلة والاستثمار في الأزمات بوسائل مخالفة للدستور والديمقراطيّة والعهود المتفق عليها.
على هذا الأساس يكون الموقف من مثل هذه المقترحات التي يجاهر أصحابها بمختلف مشاربهم ومصالحهم بمناهضة الديمقراطيّة والاختيار الحر والانقلاب على النظام السياسي شبه البرلماني المثبت في الدستور ويمرّون إلى تطبيق قناعاتهم تباعا.
على هذا الأساس من التمييز والوضوح المبدئي والارتباط العضوي بالمرجعية الديمقراطيّة والاختيار الشعبي الحر تُبنى المواقف السياسيّة في سياق مسار ديمقراطي...فالمناورة من السياسة ولكنها ليست كلّ السياسة…