كأنّ السلطة الفلسطينية، سلطة أوسلو كان يجب أن تكون وأن تستمر إلى اليوم. فهي شاهد حيّ على نظام الاستبداد العربي الذي خلف المستعمر. ولقد مثّل رحيل المستعمر، بعد أن نجح في أغلب الأقطار في تغليب الجناح الأقرب إليه في الحركة الوطنية بالتدخّل والاختراق، خدعة ومرحلة جديدة غطّت عليها بهجة الرحيل والأمل بالاستقلال الفعلي.
والأمثلة على هذا عديدة، ومنها في تونس حيث كان اغتيال الزعيم حشّاد قاصمة الظهر. فمشروع حشّاد قام على استراتيجية صهر المدني والأهلي في النقابي. ولو تمّ ذلك لكانت الحركة النقابية هي قائدة المشروع الوطني بأفقه التحرري الاجتماعي.
وكان من نتائج الاغتيال أن أصبحت المنظمة الشغيلة جزءا من النظام وحزبه الأوحد الحاكم، ثم صارت المزكّي الأول لبديل بن علي الاقتصادي في المناولة والإذلال، وبعد الثورة لم تخرج قيادة المنظمة عن استراتيجية السيستام.
وفي الجزائر كان مؤتمر الصومام 56 منعرجا حاسما في ثورة التحرير، ومنه تسرّبت العناصر العسكرية التابعة لفرنسا، ليكون لها تأثير في مفاوضات الاستقلال في 62، ولتقود البلاد بعد بومدين، ويظهر دورها بوضوح أكبر في ما سمّي بالعشرية السوداء التي انطلقت بالانقلاب على الاختيار الشعبي الحر، وفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأكثر من 80% من المقاعد في الدور الأول، وإيقاف المسار الانتخابي ( كان على دورتين).
هذان مثالان على أنّ جيوش المستعمر غادرت البلاد، ولكنها تركت شروط هيمنته متمثلة في أنظمة تابعة بنخب عميلة قاعدتها اقتصاد ريع زبوني. وكانت حركة الحقوق والحريات والديمقراطية في أدبياتها النضالية تسمّي المرحلة بالاستعمار غير المباشر.
ومع ذلك فإنّ خروج الجيوش أوهم بالاستقلال التام كما كانت ترجوه الشعوب وطلائعها المكافحة. ولعب الانفصال المكاني (رحيل الجيوش) دورا مهما في هذا ترسيخ هذا الوهم عند الناس، ومكّن الأنظمة من مشروعية خطاب سيادة واستقلال بلا رصيد.
في فلسطين فرضت طبيعة الاحتلال الاستيطاني وعصاباته المهاجرة إلى فلسطين من كل أصقاع الأرض بتأطير من الحركة الصهيونية التجاورَ بين المحتل ووهم الدولة الفلسطينية ممثلا في سلطة أوسلو. ومن شأن هذا التجاور والتداخل وحركة الاستيطان أن تفضح الهيمنة وتشهد عليها فلسطينيا وعربيا ودوليا.
وتشهد أكثر على حقيقة الاحتلال التي يفضحها التجاور المكاني، ويفضحها وقوع الشعب الفلسطيني تحت سلطتين وشرطتين ظاهرتين يربطهما التنسيق الأمني، ولا موضوع لهما إلا الفرد الفلسطيني ومحاصرته، ولا مانع من أن يكون الأمن الوقائي أحيانا هدفا للتحقيق والاعتقال وحتى الاغتيال من قبل جيش الاحتلال نفسه إمعانا في الإذلال وقتلا لمعاني الكرامة.
هذه السلطة المضاعفة المكشوفة التي يرزح تحتها الفلسطيني لا يُرى منها في دول الاستقلال إلاّ الوجه الوطني، أمّا الوجه الآخر فمخفي (الاستعمار غير المباشر)، وكثيرا ما يفتعل التعارض في السياسة بين الظاهر والمخفي دعما لشرعية لا أساس لها من حرية الشعب وكرامته.
وحتى في موضوع الاستيطان، فإنّ التشابه يشجع على الحديث عن مستوطنات في دول الاستقلال في ظلّ نظام الاستبداد العربي. فالانقسام الاجتماعي المكرّس بمركزية الدولة وعجزها عن تغطية كلّ المجال الاجتماعي والثقافي واكتفائها برعاية "مجتمعها المدني" (المركز، ومركز المركز ) وتركها "المجتمع الأهلي"(الهامش) للعراء، يجعل من أحياء الفساد البورجوازي عندنا وفي سائر البلاد العربية "مستوطنات"، ومن الأحياء الشعبية والقصديرية المحيطة "مخيمات" لاجئين اجتماعيين.
فثنائية مستوطنات/ مخيمات ليست بعيدة عن ثنائية مدني/أهلي ومركز/هامش.
والسلطة الفلسطينية، حتى قبل أن ترتكب جريمة اغتيال المناضل الحقوقي نزار بنات، كانت شاهدا على النظام العربي وكاشفة لحقيقة حضور المستعمر. وإنّ كثيرا من الأحداث التي عرفتها وتعرفها بلادنا تشهد على هذه الحقيقة وتفضحها في كلّ لحظة.
ففي 2002 اتهمت حركة حماس السلطة الفلسطينية، في شخص جبريل الرجوب رئيس جهاز الأمن الوقائي، بتسليم مجموعة من المعتقلين إلى سلطة الاحتلال. وكم من مناضل حقوقي وسياسي تمّ تسليمه في البلاد العربية من قبل هذا النظام إلى ذاك.
السلطة الفلسطينية فاضحة لحقيقتها ولحقيقة نظام الاستبداد ومذكّرةٌ، في كلّ لحظة، بحقيقة الاستعمار وهيمنته وأدواته في الهيمنة.
ومثلما اشتدّ قمع النظام العربي مع انتفاض الحشود المواطني الذي انطلق من تونس، حين اهتزّت الأرض تحت أقدامه، تحتدّ سلطة أوسلو وتمعن في التنكيل بالجماهير الفلسطينية حين وحّدت حركتُها ومقاومتُها فلسطين التاريخية في عمليّة سيف الأقصى التاريخية.