"إذا كانت ديمقراطية أثينا مشروطة بالعبوديّة والديمقراطية الغربية اليوم مشروطة بالهيمنة، تطمح ثورة الألفية الثالثة المنطلقة من تونس إلى بناء ديمقراطية مشروطة بالحريّة. "
جملة ترددت في جلّ ما كتبنا عن ثورة الحرية والكرامة باعتبارها إجابة عن أزمة الدولة والديمقراطية ومن ثمّ عن معضلة الانتظام السياسي في عالمنا الحديث. ذلك أنّ كلّ ما كُتب في هذا الباب كان للإجابة عن السؤال الأزلي: كيف للإنسان أن يعيش حرّا وفي جماعة في الآن نفسه؟
فما المقصود بالشروط التي أسست وتؤسس الديمقراطية سواء كانت "عبودية" أو "هيمنة" أو يؤمل أن تكون "حريّة"، وقد أشارت إليها هذه الجملة التي كثّفت تاريخ الديمقراطية ومنعطفاتها الكبرى ومآلاتها المنتظرة.
الديمقراطية المشروطة بالعبوديّة
يقودنا الحديث المبسّط عن الديمقراطية في أثينا واعتبارها مشروطة بالعبوديّة إلى طبيعة المجتمع في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. وفيه يُماهي فلاسفته بين الدولة والمدينة حتى غدت "سياسة المدينة" (la cité) مرادفا لـ"سياسة الدولة". وانتظام المدينة/الدولة عندهم صورة اجتماعية وسياسية من نظرية قوى النفس وهي قوى ثلاث :
القوة الناطقة أي العاقلة وموطنها الرأس ويمثلها اجتماعيا الفلاسفة، والقوة الغضبية وموطنها القلب ويمثلها الجند، والقوة الشهوية وموطنها الكبد ويمثلها النساء والعبيد، وهم دون منزلة الإنسان ومرتبة المواطنة، وموضوعٌ من مواضيعها. إنّهم مستبعدون من المشاركة في سياسة المدينة وديمقراطيتها المباشرة. فينقسم المجتمع إلى أحرار وهم المواطنون وعبيد (العامة والنساء). ولهذا صدى في أدب "المدينة" فكان بطل التراجيديا (المأساة) من النبلاء وبطل الكوميديا (الملهاة) من العامة.
وتمثل "السعادة" القيمة المركزية في الفلسفة اليونانية ومدينتها الديمقراطية. وفي هذا المعنى اعتبر الطبيب والفيلسوف اليوناني ديوجانس أن تحقّق السعادة يكون بـ"تحكم فلاسفة المدينة وتفلسف حكّامها". وهذا مدعاة إلى انتظام كلياني عقلي صارم تصنعه الأقلية الحرة من النبلاء التي تحتكر صفة المواطنة وامتيازاتها. فالعبودية عند يونان طبيعة وليست ثقافة. وكان هذا كافيا لقيام حواجز مستقرة بين مكونات المدينة الأثينية، وهي حواجز بين الإنسان وإنسانيته. فالحرية أمر "لا مفكّر فيه" عند العبيد في مدينة أثينا. في حين كان العبد "أسود الزبد" المنبوذ تحت جسر دجلة في المدينة الإسلامية في القرن الثاني ببغداد ينفر إلى الحرية زمن الغارات لا بسبب ما جدّ على سطح المجتمع من فوضى اجتماعية وانفراط عقد السلطة فحسب، وإنما تحديدا بما ترسب في عمقه من أنّ "العبوديّة ثقافة" وحال طارئ وأنّ الحرية أصل وإن حجبتها ملابسات سياسية اجتماعية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!!) وأنّ الإنسان واحد (كلكم لآدم وآدم من تراب). وأنّ تفاضل الناس في الكرامة يكون باحترامهم الإنسانية المودعة فيهم (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم).
بهذا المعنى كانت ديمقراطية أثينا مشروطة بالعبوديّة. وهي إذ تستبعد المرأة والعبيد والعامة والأغراب من دائرة الانتماء للإنسان فإنّها تستثنيهم من المشاركة في تدبير المدينة (الديمقراطية).
ورغم أنّها مشروطة بالعبوديّة كانت ديمقراطية أثينا مباشرة، ويبدو أنّها لم تكن قابلة للحياة والاستمرار سوى داخل حيّز بشري محدود هو المدينة/الدولة . وكان لظهور الإمبراطوريات بما هو توسع ديمغرافي وامتداد جغرافي تأثير قوي على مثل هذه النماذج في الانتظام السياسي وسببا كافيا لكي تفقد هويتها السياسية وسياقا مهما لبناء متصوّر مخصوصا للإنسان وابتداع مناويل مستحدثة في الانتظام السياسي والاجتماعي.
وللعامل الديمغرافي دور فاعل في تجارب كلّ أشكال الانتظام وهويتها السياسية والسبب الأساسي في الانقسام (ظهور الدولة)، وكان العدد والتوسع الديمغرافي التحدّي الأكبر الذي واجه التجارب الأخلاقية الكبرى بدخول أمم بأعراق وألسن مختلفة إلى "الفكرة الجديدة ولسانها". وغالبا ما كان هذا الاتساع مدعاة لظهور وسيط يشرح "الفكرة الجديدة" بلسانها إلى الداخلين الجدد فيها بألسنتهم المختلفة (ظهور المعلم الذي سيصبح حاكما).
هكذا كانت ديمقراطية أثينا مشروطة بالعبوديّة…
الديمقراطية المشروطة بالهيمنة
ونعني بها الديمقراطية التي ظهرت في الغرب الحديث واستقرت فيه منذ ما يقارب القرنين، وهي في تقديرنا لم تكن نتيجة سياسية مباشرة للثورات المتعاقبة التي عرفتها أوروبا بقدر ما كانت نتيجة تسوية تاريخية كبرى بين السوق والسياسة نضجت عبر مراحل، وكانت الانتفاضات والثورات دافعا إليها.
ومن شأن الديمقراطية، أيّا كانت صفتها، أن تُبنى بمرجعية الثقافة الوطنية لكل جماعة سياسية، وتكون نتيجة سياسية لتسويات كبرى ومصالحة تاريخية بين قوى المجتمع الفعلية. وتلك هي شروط الديمقراطية باعتبارها إدارة سلمية تُحفظ فيها الحقوق بتأمين العيش المشترك والأمن النفسي والسلم الأهلي (الإطعام من الجوع، والتأمين من الخوف). وهي الشروط التي تبلور فيها متصوّر الجماعة السياسية للدولة بنيةً ووظيفةً. وتكون الثورة، في تاريخ المجتمعات حالة دورية كالنبوّة (ترث وظيفتها)، تأتي لتذكّر بالقيم عندما تحوّل الدولة، حين يطول بها العهد، كل القيم إلى قوانين.
فالثورة لا تبني رفاهًا ولا استقرارا وإنما هي تذكير بالقيم كقيمة العدل والحرية والأخوة ودعوة إلى إعادة بناء الدولة والمجتمع وتأسيس الحقوق على ضوئها. لذلك فإنّ الثورة لا تأكل أبناءها مثلما شاع في الأدب السياسي. ولا آكلَ للبشر والقيم مثل الدولة.
فالثورة فكرة والدولة مؤسسة، ومما لا نجد له فهما ولا تفسيرا أنّ الغاية التي تجري إليها الفكرة هي المؤسسة. ومع ذلك انطرح سؤال: هل الدولة ضرورة أم اصطناع؟!
فإن قلنا هي ضرورة سلّمنا بنهاية التاريخ عندها، ووقفنا على غباء الإنسان الذي يفتل قيده ويبني سجنه. وإن قلنا هي اصطناع كنا أقرب إلى منوال الفسيلة، وعجبنا من جسارة الكائن الذي لا يتردد في فتح باب التاريخ حين يتعلّق بما وراء العرش وبالأمل في نيله.
ولتقريب معنى الديمقراطية المشروطة بالهيمنة نشير إلى هوية الظاهرة الاستعمارية الحديثة. وإلى أنّ المستعمر الذي خرج من أوروبا باحثا عن أسواق لرأسماليته الفائضة على حدوده هو الغرب البورجوازي الديمقراطي في ملابسات سياسية واستراتيجية وتاريخية معلومة. وهو ما يعني أنّ الحرية والكرامة مقصورتان في الغرب على الإنسان الغربي، في حين يمثّل الإنسان خارجه موضوعا للاستغلال والقهر. فهو الآخر البربري و"ماقبل -السياسي" والمتوحش منزوع الإنسانية والقاصر عن التمدّن وأنوار الحضارة.
وهذا ما تمّ تاريخيا بالفعل، ففرنسا الحديثة ديمقراطية داخل فرنسا تضمن حرية أبنائها وحقوقهم ورفاههم ولكنها في الوقت نفسه هي القوة الاستعمارية التي احتلت الجزائر والمغرب العربي والشام وتورطت في حروب إبادة ونهب ثروات البلاد المحتلة لأكثر من قرن. ويجد كل ذلك أساسه في ثقافة الغرب وفلسفته وحداثته السياسية رغم دعاوى الكونية.
وتمثّل دولة الكيان الوظيفية المزروعة في قلب المجال العربي "النموذج الأوفى" للديمقراطية الغربية المشروطة بالاستعمار والعنصرية. ولقد أريد إظهار كيان الاحتلال "الديمقراطية الوحيدة" في ظلمات الاستبداد العربي. فداخله يعيش "شذاذ الآفاق" المجلوبون من كلّ الأصقاع إلى فلسطين رفاها وحياة سياسية مؤسسة على الحقوق وامتلاك أسباب القوة والتفوق بدعم الغرب نفسه وإطلاقه يد "دولة الميز العنصري المصطنعة " في فلسطين باستباحة الأرض والإنسان فيها .
وعلى هذه الشراكة القديمة المتجددة يأتي ردّ الفعل من داخل الغرب قويا نفسه ومن مراكز العلم والمعرفة فيه تحت تأثير الطوفان المتعاظم.
الحراك الطلابي والديمقراطية المشروطة بالحرية
رغم اختلاف السياقات التي حرّكت النخب في الولايات المتحدة احتجاجا على حرب الفيتنام وجرائم النظام العنصري في جنوب أفريقيا فإنّها تشترك في سبب عميق يعود إلى طبيعة الديمقراطية في الغرب وكيف أنّها مشروطة بالهيمنة والاستعمار والعنصرية.
ولهذا السلوك الاستعماري المعادي لإنسانية الإنسان جذوره الفكرية. ويمثل المفهوم الاقتصادي "نمط الانتاج الآسيوي" أحد أسسه النظرية الماثلة في صميم المادية التاريخية ومراحلها الإنتاجية الخمس. ومن خلالها يظهر الإقطاع في أوروبّا نمط إنتاج منفتحا وقادرا على الانتقال الذاتي إلى الرأسمالية. في حين يظهر الإقطاع خارج أوروبا ومنه البلاد العربية عاجزا عن الانتقال بشروطه الذاتية إلى الرأسمالية بسبب انغلاقه (الملكية الجماعية للأرض خاصة). فكان لا بدّ من عامل خارجي يكسر انغلاقه ويُيسّر انتقاله إلى الرأسمالية. وكان الاستعمار هو هذا العامل، ولهذه الغاية "النبيلة" أُسندت إليه وظيفة "التمدين والتنوير والتحديث".
ويمثل مفهوم "الاستبداد الشرقي" الوجه السياسي لمفهوم "نمط الإنتاج الأسيوي". والاستبداد الشرقي بدوره استبداد مغلق غير قادر على الانتقال ذاتيا إلى الديمقراطية. وعلى هذا الأساس كان الاستنتاج التالي: لئن كان للعربي تقاليد في مقاومة المستعمر باعتباره الآخر الكافر الغازي فإنه لم تكن له تقاليد في مقاومة الحاكم المستبد (الحرية دون وعي الحرية). وعليه فإن الاستبداد لن يُكسر إلا بعامل خارجي هو التدخل العسكري الأجنبي. وعلى هذا الأساس اعتُبر غزو العراق وتدميره واحتلال عاصمة الرشيد نشرا للديمقراطية، وعلى ضوئه كان تنصيب بول بريمر في المنطقة الخضراء حاكما أمريكيا على شعب العراق وتاريخه بتزكية مرجعية تقاطعت مع مصالح الجوار رغم العنوان السياسي الذي كان واجه الولايات المتحدة باعتبارها "الشيطان الأكبر" الذي كان وراء "حرب مفروضة" دُفع إليها النظام العراقي عشية انتصار الثورة الإسلامية.
كانت ثورة الحرية والكرامة ثورة الالفية الثالثة الردّ الأول على تهافت تبرير الاستعمار، فأبان الانتفاض المواطني المنطلق من تونس والمتوسع إلى كل المجال العربي بأنّ للعربي تقاليدَ في مقاومة المستعمر باعتراف المستعمر نفسه وأنّ له تقاليد راقية في الانتفاض المواطني السلمي على نظام الاستبداد العربي المسند من الغرب الاستعماري رغم إنكار الغرب نفسه. والذي كان، إلى جانب عوامل داخلية عربية، سببا في تطييف الثورة وتسليحها (الإرهاب المصنوع) وتشويه وجهها في بحر من الدماء ومئات آلاف القتلى وملايين المشردين بين قارات العالم (سورية الشهيدة والمحتلة نموذجا).
ورغم كل تلك الأهوال وصلت رسالة الربيع قوية إلى قلب النظام العولمي و"مركز صناعة الاموال" (وول ستريت) مبشّرة بديمقراطية تكون مشروطة بالحرية. أي أنّها ديمقراطية للإنسان من من حيث هو إنسان لا فرق فيها بين أبيض وأسود وامرأة ورجل إلا بدرجة الالتزام بشروط المواطنة والعيش المشترك والأخوة الإنسانية. وفي ذلك تجاوز لفك الارتباط الذي حصل بين الديمقراطية والحرية مع الغرب الاستعماري واستعادة تدريجية لارتباط الديمقراطية بالحرية والسياسة بالأخلاق.
من فلسطين يبعث المجال العربي، بعد رسالة الربيع، برسالة الطوفان العظيم، ليصل صداها إلى الجامعات "مركز صناعة الأجيال". فالحركة الطلابية في الولايات المتحدة وأوروبا لا تعنيها عقيدة المقاومين ولا ثقافة الشعب الفلسطيني بقدر ما تَنْشدّ إلى عدالة القضية وأبعادها الإنسانية واستماتة أصحابها في الدفاع عن حقهم الطبيعي في الحياة والحرية والكرامة من ناحية. هو جيل متعلم لم يقبل بالظلم وإن كان من مجالها السياسي والثقافي. فقد تعلّم في الجامعات إيّاها ومن وهيئات التدريس والنخبة الأكاديمية بأن الأخلاق كونية إنسانية. وفي هذا قال نخبة من الأساتذة هبوا لنصرة طلبتهم المحاصرين في اعتصامهم: نحن مطمئنون بأنّ طلبتنا يقفون في الجانب الإيجابي من التاريخ. وهم يدركون أنّ الحراك الطلابي هذه المرة يختلف نوعيا عن تاريخ الحراك الطلابي حول فيتنام وجنوب أفريقيا فالمستهدف اليوم هو السردية الصهيونية المهيمنة على مفاصل الحياة في الغرب. وأن الذي يحدث منطلق لعملية تحرير غير مسبوقة. فالحراك الطلابي الممتد إلى أهم جامعات الغرب الأمريكي والأوروبي والعالم نقد جذري للديمقراطية المشروطة بالهيمنة وفتح لأفق انتظام يؤمل أن تكون فيه الديمقراطية مشروطة بالحرية.
والديمقراطية المشروطة بالحرية أفق كان للمجال العربي، رغم حالة الاستثناء التي هو عليها، فضل المساهمة في فتحه بالربيع ثم بالطوفان والدفع نحو انتظام إنساني أكثر عدلا وأعلق بإنسانية الإنسان يتيح "إدارة التعارف" بديلا عن "إدارة التوحّش" وأسسها في النظام العالمي.