على مدى سنوات الثورة وقد استمعنا فيها إلى رؤساء جمهورية ورؤساء حكومات متعاقبين يقدمون أنفسهم وبرامجهم ويتدخلون في أشدّ الأزمات التي عرفناها والتي لا يمكن أن تكون في حجم أزمة كورونا… في هذه السنوات لم أستمع إلى مداخلة بهذا المستوى من الثقة في النفس والوضوح في الرؤية والدقة في الأهداف والمراحل ولم يصادفني هذا الاطلاع على الملفّات ولا هذا الانسجام في الفريق الحكومي وتحمّل الدولة لمسؤوليتها مثل الذي كان في مداخلة رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ على الوطنية الليلة البارحة.
وفي هذه السنوات لم أر أداء وتفانيا وشجاعة في المواجهة رغم ندرة الموارد وإصرارا على المبادرة والاستباق رغم معوقات الإدارة واهتراء بنية الصحة العمومية، مثلما رأيته في أداء عبد اللطيف المكي الذي جوبه منحاه لإصلاح منظومة الصحة في 2013 من قبل لوبيات الصحة والدواء والبورجوازية المدينية المتحالفة مع الاستبداد والمركزية النقابيّة وكثير من الحداثيين وحراس النمط.
ويخوض الرجل اليوم أنبل المعارك وشرفها بكتيبة طبية فدائية يكفي أنّ نذكر من بين جنرالاتها نصاف بن علية وشكري حمودة والطاهر القرقاح…
هذا ليس إمضاءً على بياض، ولا موافقة على برنامج ونوايا إصلاح لم تتح الفرصة لاختبارها واختبار أصحابها. هذا تقييم وإن شئت مجرّد انطباع على أداء في وضع غير مسبوق هو وباء كورونا المهدِّد بالموت وحصد الأرواح على مهَلٍ في كابوس يومي أشبه بطقوس تقديم القرابين على مذبح الآلهة.
نحن أمام حرب مفتوحة على الوباء الزاحف والموت الداهم، وقد تحقّقت خطوات مهمّة في الخطة التي كانت بروح استباقية وهذا من لطف الله بنا. وعلى قاعدة إنقاذ الأرواح سيكون الفرز السياسي، وعليه ستبنى الشرعيّة القادمة. وهي:
شرعيّة لن تخلو من تفويض انتخابي وهو عنوان تواصل المسار الديمقراطي وترسخه، ولكنها تحمل معنى آخر عظيمًا يضاهي الشرعية التي منحتها لحظةُ تحقيق الاستقلال وبناء الدولة الوطنيّة و"إنعاش الأرواح" المتعبة بالمظالم السياسية والحيف الاحتماعي. هي لحظة "إنقاذ الأرواح" مقدّمة إلى إنقاذ البلاد من أزمتها البنيوية.
وينتظر ان تكون لحظة كسر الوباء والخروج الواثق من الحجر عي لحظة وضع أسس (قواعد) البناء زمن حديد الجديد وفرصة لرفع الركام القديم والأساسات الأولى التي بليت وما عادت قادرة على حمل بناء جديد.
في هذا يجب أن تكون المنافسة، لذلك يبدو رئيس الجمهورية بأدائه الكارثي ورئيس مجلس نواب الشعب بأدائه السياسوي غير معنيَّيْن بهذه المنافسة، ونرجو ألا يكونا عقبة في سبيل "طقس العبور " هذا الذي تعيشه الدولة وتعيشه البلاد.
وليس لهما من موقف إلا موقفًا واحدًا دعم الحكومة والشدّ على يدي وزارة الصحة رأس الحربة في هذه المنازلة الفاصلة بلا خطب فارغة وبيانات جوفاء.
هذا التوجه سيكون له خصومه من مقاولي السياسة وطلاب الغنيمة و"اللاّغِفِين" من كلّ الطناجر (طناجر: المرزوقي، السبسي، الغنّوشي، سعيّد)، لا يهمهم صاحب الطنجرة، فلهم القدرة على التوفيق بين " الدفاع عن أداء رئيس الجمهورية الكارثي وخطة الحكومة في كسر الوباء، أو الجمع بين الحماس لبرنامج وزارة الصحة خطتها على هذه الحرب الحاسمة والانتصار لمماطلات رئيس مجلس النواب البائسة في موضوع التفويض.
الخروج بأقلّ الأضرار من عنف الوباء هو المقدمة الوحيدة إلى بناء تونس. ولن يتحقّق هذا إلاّ بدرجة عالية من الالتزام بهذه الحرب وبسياسة الحجر الصحّي ومنهج الخروج التدريجي منها.
الوجه الآخر للأوبئة والزلازل والآفات والحروب هو أنها طقس عبور إلى حال جديد وخلق مبتدع لم يكن ممكنا في الشروط العادية. فالأمم كالحيات تجدّد ثوبها وتضع خِرِشَّاءَها لينبت لها جلدٌ جديد.
ستبنى شرعية جديدة، وقيادات جديدة وجمهورية جديدة…أمّا إذا فشلنا في هذه المعركة الوجودية معركة كسر الوباء فإنّنا نكون قد دخلنا -لا قدّر الله - في مرحلة تيه سياسي واجتماعي بلا أفق.