والتسويات مطلوبة من النخبة السياسية، ولكن بمرجعية دستور الثورة ومسار بناء الديمقراطية…لا بهدم ما بقي من أسس تقف عليها.
يتأكّد دور النخب في الأزمات السياسية الخطيرة في الوصول إلى تسويات تكون نتيجة تنازلات متبادلة بين المختلفين محكومة بميزان القوى وعلى ضوء ما يقدّر أنّه مصلحة عامّة. وفي سياقنا السياسي نرى أنّ الأهمّ من كلّ ما سبق، هو المرجعية التي تتمّ على ضوئها التنازلات والتسويات. وهي في حالة أزمتنا الحالية سقف الدستور والمنظومة الديمقراطية التي بنتها الثورة.
قيس سعيّد الذي أقسم على صيانة الدستور وحمايته ينقض ما أقسم عليه. وكل ما أتاه منذ تولى المسؤولية لا يخرج عن الخرق الجسيم للدستور والإصرار على هدم النظام السياسي والانقلاب على مسار بناء الديمقراطيّة، وقد حاول مرارا جرّ المؤسسة الأمنية والعسكرية لكي تكون أداة الانقلاب، وكشف ما سمّي بوثيقة الانقلاب الدستوري عن مخطّط مفصّل لتحقيق هذا الهدف.
وتواطأت معه قوى وظيفية رثّة حرّضته مرارا على تحريك الجيش وسكتت عن رفضه استقبال الوزراء لأداء اليمين بعد نيلهم الثقة من البرلمان، وساعدته على الامتناع عن ختم قانون المحكمة الدستورية باعتراضها العبثي قضائيا على مشروع القانون إمعانًا في التعطيل والبلوكاج الشامل، والبلاد في الوضع الذي نعلم.
فشِل سعيّد في كل محاولاته الانقلابية، فدعا إلى إلغاء دستور الثورة وتنقيح دستور 59 لاعتماده، وهو ما أكّده اليوم في حديثه مع زيتون وما ساقه من تبريرات سخيفة…
والمحصّلة أن سعيّد استكمل شروط عزلته، ومبرّر حصره في المربع الذي ضبطه له الدستور. وهو الحلّ الوحيد للوقوف في وجه منحاه التدميري لاستحالة عزله بالأساليب القانونية للأسباب المعلومة..
ولكن الجهة المقابلة تمنحه فكّ الطوق عنه، متجاوزة كل قيمة وكل مبدئية وكل تقدير سياسي مقبول… فسعيّد يعرف أنّه عزل نفسه، لذلك يتراجع وينكر ما قاله عن الحوار الوطني، وهو يعرف أنّه لا يقول الحقيقة، مثلما حنث في قسمه على تحمّل الأمانة بمرجعيّة الدستور…
من دعا إلى العودة إلى دستور 59 لا يمكن أن يكون طرفا في أي حوار، ولا يؤتمن جانب، ولا موقف منه إلاّ المقاطعة الشاملة، فهو الفأس التي شرعت بعدُ في هدم القليل الذي بُني.
ومن يستجيب لدعواته صار مثله…
التسويات السياسية إذا هدمت المبادىء الكبرى التي هي مبرّر وجود من انخرطوا فيها، تصبح عبثا في منظور السياسة وسقوطا في منظور الأخلاق .. السيّد زيتون حرّ في مبادرته، ولن نحكم على دوافعه ولا نعلم ما قاله لسعيّد، وكلّ ما يعنينا هو نتيجة هذه الوساطة السياسية، والتي لا يمكن أن تكون إلاّ فكّ العزلة عمّن حنث في أيمانه المغلّظة، ولا يتراجع عن سياسة التعفين والهدم، حتّى وإن أراد لطفي غيرها (ما يدور عن حكومة سياسية في الأفق)..وإلا ما كان دعا زيتون ولا استقبله..
أمّا تأجيل مقابلة حنّبعل، والتي لا أعلم فحواها ولا أنتظر منها شيئا على الإطلاق، فهي أول الوهن وكسرٌ لإطار الحوار الممكن ونسفٌ لمرجعيته: دستور الثورة ومسار بناء الديمقراطية..
الحوار الوطني، رغم أنّه تمّ بشروط القديم (التنازل عن الشرعية الانتخابية) إلاّ أنّه كان بأفق استئناف الانتقال إلى الديمقراطية ( استكمال الدستور، انتخابات ديمقراطية، إرساء الهيئات التعديلية والدستورية المطلوبة)…