بعد قرار المحكمة الإداريّة بقبول طعن المرشحين عبد اللطيف المكي ومنذر الزنايدي وعودتهما إلى السباق الرئاسي وإمكانيّة أن يلتحق بهما عماد الدايمي بدأ الحديث عن فكرة التنسيق بين مرشحي المعارضة الديمقراطيّة واجتماعهم على مرشّح واحد من بينهم. اتفاق قد يحسم الرهان الرئاسي من الدور الأول. ودون النوري في هذا حلمة سمحة.
أعادتني الفكرة إلى ما كنّا أسميناه قبل الانقلاب بـ"التنازل التاريخي". وكان الدافع إلى هذا العرض السياسي تطور الاختلاف حول شروط الديمقراطية الأساسيّة (النهضة خاصة) عند البعض إلى مناهضة للديمقراطية نفسها، وأصبحت الديمقراطية تمثل عنده تهديدا وجوديا. ومثّل هذا مأزقا سياسيا هيكليا لم تتمكن الحركة الديمقراطية من تخطيه.
ووفّرت المقاومة المواطنيّة في مواجهة الانقلاب والدفاع عن الدستور والديمقراطيّة سياقا ساعد على التقاء قوى مختلفة المشارب يمكن أن تملأ مرحليّا الفراغ الذي يتركه تراجع بعض القوى التي ستكون أولويتها إعادة ترتيب صفوفها وفكرها دون الانقطاع عن المشهد والفعل فيه (المشاركة في التشريع دون التنفيذ: فكرة "العريضة الوطنيّة" التي انطرحت داخل مواطنون وورثتها الجبهة).
وكان من بين ردود الأفعال حول فكرة "التنازل التاريخي" اعتبارها تنازلا للثورة المضادة وخدمة لاستبداد غير قادر على التجدد. وما تواصله إلاّ بسبب تشتت القوى الديمقراطية وضعفها وعدم ثقتها بنفسها.
بعد ثلاث سنوات من الانقلاب، لم يعد الانتقال الديمقراطي على أهميّته هو موضوع الإنقاذ وإنّما موضوعه الدولة المهددة في وحدتها واستمرارها. فسعيّد يؤسس لـ"دولة أخرى"ولذلك جعل من وصوله إلى رئاسة الجمهورية فرصة لتقويض الدولة القائمة وتحقيق هدفه السياسي.
ومن المفارقات أنّ ما بقي من الدولة البورقيبية اليوم يحميه موضوعيا شارع ديمقراطي تصدى للانقلاب في ظل صمت عام مطبق. وأساس هذا الشارع جمهور النهضة ومناضلوها.
يعني صرنا إلى ما يشبه المفارقة وتتمثّل في أنّ القوة الأساسية التي تحمي موضوعيا ما بقي من الدولة البورقيبية باسم استعادة الديمقراطية هم الإسلاميون ومحيطهم الديمقراطي، في حين اصطف طيف واسع من الحداثيين وممن انتسبوا إلى بورقيبة ودولته مع الانقلاب هادم هذه الدولة. فهؤلاء الذين هبوا بعنوان الدفاع عن مدنيتها ومكاسبها الحداثيّة من تهديد من تمّ تفويضه ديقراطيّا في الانتخابات التأسيسية هم أنفسهم من تواطأوا بالتمهيد للانقلاب بسياسة "الترذيل والتعطيل" بقيادة الشعبويّة العاميّة.
كانت المهمة الأولى للتأسيس إعادة بناء الدولة وإخراجها من جهويّتها/مركزيّتها لتغطّي كل مجالها السياسي والاجتماعي فتكتسب الصفة الوطنيّة لأول مرة في تاريخها. وحين تعذّرت المهمة كان الرضى بسكنى الدولة البورقيبيّة في غياب فعلي للبورقيبيين، وقد كان موتهم السياسي الفعلي يوم لم يجرؤوا على زيارة "الزعيم" في محبسه، بعد أن تحول أغلبهم إلى تجمعيين. ولم يحضروا جنازته وحضرها المنصف المرزوقي ابن العائلة اليوسفية، رغم الإصرار على منعه.
هل يوجد بورقيبيون؟ بل وما معنى بورقيبي في 2024؟ وهو سؤال عمّا بقي من "القديم" يصلح شريكا في استعادة الديمقراطيّة؟ هذا سؤال موجّه إلى منذر الزنايدي قبل غيره.
مهم جدا الانتباه إلى معطى الاستقطاب، ولكل شخصية منه نصيب لسياقات المنافسة دور في درجته وحدّته. وهذا ليس ذنب هذه الشخصيات وإنما هو محصلة عشرية من الصراع المحتدم الذي لم تخلص من النخبة إلى تسويات ومصالحات لا يقدر عليها سواها ولا تكون ديمقراطيّة ولا يكون بناء سياسي ثابت ومشروع مجتمعي مستقر بدونها.
لذلك كان من الحركة الديمقراطيّة تركيز على مواصفات الشخصيّة المترشحة وقدراتها أكثر من ملامحها السياسية ومنبتها الإيديولوجي. فرأت أنّ المطلوب في الشخصية التي ستقود المرحلة أن يكون لها فريق كفء ببرنامج إنقاذ اقتصادي ناجع، وأن توصلنا إلى الديمقراطية.
ولا خلاف في أن من بين مترشحي المعارضة الديمقراطية من هو أكثر ضمانة للوصول بالمشهد إلى الديمقراطية، ومنهم من هو أقدر في موضوع الإنقاذ الاقتصادي...الخ. وهذا ضرب من الفرز تيسره ثقافة المترشحين الديمقراطية وانتباههم للحاجة إلى التنازلات المتبادلة من أجل الهدف المشترك: استعادة الديمقراطيّة.
يكون هذا إذا تمّ الوصول بسلام إلى موعد الانتخابات. وهو مآل بيد مرشحي المعارضة الديمقراطية وهم مسؤولون، في جانب كبير، عن تحققه وتمامه.
والمنتهية رئاسته (وعند الحركة الديمقراطيّة انتهت يوم 25 جويلية 2021) الذي يخشى ألاّ يتجاوز الدور الأول سيكون العقبة الكبرى التي تمنع تحويل موعد 6 أكتوبر إلى منعطف سياسي نحو استعادة الديمقراطية.
الصراع الدائر هو بين الانقلاب والديمقراطيّة، ولكن من المهم التشديد على أنّ وجهه الآخر الأخطر وهو صراع بين تصورين متناقضين للدولة. وهذا لم يحدث في عشريّة الانتقال رغم الزعيق والنعيق، فقد كان صراعا تحت سقف الدولة الموروثة بعد أن أنهت الثورة مشكل الشرعيّة الذي عاشته (الدولة) في ظل الاستبداد وأخرجتها من الغلبة إلى التعاقد. وفي المقابل يتواصل سعي محموم اليوم لإرساء دولة لم تعرفها تونس في تاريخها الحديث.
ولهذين التصورين للدولة علاقة بصراع المحاور في منطقتنا ومجالنا العربي وانعكاسه المباشر على مشهدنا وقواه السياسية. وصار للعلاقة بهذا المحور أو ذاك أثر اقوى من آثار الهويّة السياسية والمرجعيّة الإيولوجيّة. وهذا مهم لفهم ما بين أيدينا وما يدور حولنا.