قبل الثورة وبعدها…
عرفت البلاد نقلة في الحياة الحزبيّة من العقدي إلى السياسي. وكان هذا مسارا عرفته الأحزاب المنتسبة إلى العائلات الكبرى الإسلاميّة والقوميّة والماركسيّة والليبراليّة. ولئن كانت العائلات الأولى واضحة الحدود فإنّ العائلة اللببراليّة لم تتحيّز بما فيه الكفاية لِتَوَزُّعِ حضورِها بين النظام السياسي الذي كان أقرب إلى التصوّر الليبرالي الاقتصاديّة (فيه تدقيق) وبين ملامح ليبراليّة لعناصر خرجت عن الحزب الحاكم وانشقّت عن النظام ورفعت شعار الليبراليّة السياسيّة. وأنّه لا يمكن الحديث عن انفتاح اقتصادي دون انفتاح سياسي.
يمكن رصد هذا التحوّل من العقدي إلى السياسي في مستويات مختلفة تجربة الأحزاب ونكتفي منها بأسماء الأحزاب وتبدّلها عبر المسيرة السياسيّة ومنعرجاتها. فحركة النهضة انطلقت باسم الجماعة الإسلاميّة ثمّ صارت حركة الاتجاه الإسلامي. والتسمية نشأت في جريدة الرأي وأكنافها ثم تبنّته الحركة في إعلان 6 جوان 1981.
كذلك تطوّر الحزب الشيوعي التونسي إلى حزب التجديد واستقرّ عند حزب المسار. وحزب العمّال الشيوعي غيّر اسمه إلى حزب العمّال وتنازل عن صفة الشيوعي. ويبدو هذا مع انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط الأنظمة الشيوعيّة في أوروبّا الشرقيّة واتجاه الصين إلى "رأسماليّة على الطريقة الصينيّة" (سمّيت اشتراكيّة على الطريقة الصينيّة تورية لحقيقة التحوّل في التجربة). وأمّا التجمّع الاشتراكي التقدّمي فقد صار الحزب الديمقراطي التقدّمي وانتهى بعد انقسامه إلى الجمهوري.
وما يلاحظ في هذا المسار أنّ هناك اتجاها واضحا إلى التخفّف من العقدي الإيديولوجي باتجاه السياسي. وأمّا الأحزاب التي نشأت بعد الثورة فقد خلت أسماؤها من كلّ محمول إيديولوجي. كالتيّار والتحالف والحراك...الخ.
وعرفت البلاد تحوّلا آخر مهمّا من السياسي إلى العولمي. وكان هذا التحوّل على هامش الأحزاب والحياة السياسيّة. وإن لم تسلم الأحزاب ممّا نسميّه "شبيبة معولمة"، فظهر جيل حزبي معولم في كلّ الأحزاب مثّل حالة تململ تشير لا إلى صراع أجيال وإنّما إلى سيلان هووي مثير.
فالعولمي يمتدّ من المِثْليّة مرورا بالفرارات والفيراج والألتراس وانتهاء بالتطرّف العنيف. وعدم التمييز بين الجيل العقدي والسياسي من ناحية والجيل المعولم أفضى إلى خلط كبير بين "العنف السياسي" الموروث عن صراعات الحركة الطلابيّة والنقابيّة والسياسيّة وبين "الإرهاب المعولم". وكان هذا الخلط من أسباب الفشل في محاربة الإرهاب بمقاربة شاملة وناجعة. فالخلط بين "الإسلام السياسي" و"الإسلام المعولم" ووجهه العنيف "الإرهاب المعولم" كان سببا آخر في تفتّت المشهد السياسي وتنابز الجميع بالإرهاب.
التحوّل من العقدي إلى السياسي ومن السياسي إلى العولمي غيّر ملامح المشهد السياسي. فلم تعد هناك علامات واضحة تدلّ على الجهة السياسيّة وتاريخها وأصولها أو على الفاعل السياسيي وجذوره في حياتنا السياسيّة الجديدة.
فحينما يقال لك فلان من البي ـ دي ـ بي أو المؤتمر أو التكتّل فإنّ هذه المعلومة غير ذات فائدة تذكر. ولن يهدأ لك بال إلاّ إذا قيل لك عن " الشريحة الأولى" (ماركسي، إسلامي، قومي...). وكذلك اليوم مع الأحزاب الناشئة كالتيار والجمهوري والحراك...وقد تكتسب مع الوقت "ملامحها المستقرّة". وإن كان هذا يتطلّب وقتا طويلا، فالملامح متداخلة والبرامج متطابقة ولا شيء يميّز هذا عن هذا إلاّ فيما يقوم من جدل/عراك سياسي لا يرسم حدودا فكريّة بقدر ما يقيم حواجز نفسيّة.
في سياقنا الجديد وبعد انتخابات 2019 برزت ظواهر جديدة وتحديدا في الانتخابات الرئاسيّة. لا هي بالسياسيّة ولا هي بالمُعولمة... هي أقرب إلى "الشعبوية". وأمكن للمغمور أن يتصدّر. وألاّ يتجاوز "برنامجه "مقترحا "شكلانيّا" لا يخرج عن الجانب الإجرائي من الاقتراع (التصويت على الأفراد). فقيس سعيّد لا تاريخ سيايسي فعلي له، فهو كالمبني للمجهول.
والمجهول مخيف وإن تكلّم بلسان الثورة. ولاخوف من المعلوم وإن جاهر بمناهضتها. نحن نعرف نجيب الشابي، ونعرف المرزوقي ونعرف الغنّوشي ونعرف حمّة الهمّامي ونعرف الباجي حتّى عبير نعرفها ونعرف تزغريطها ولكنّنا لا نعرف سعيّد ولا نعرف محيطه...
والغريب يحاول الجميع التقرّب منه لغموضه، وكلّ يتوهّم أنّه بمقدوره توظيفه وتقوية صفّه به...وهو بدوره يستثمر في هذا الغموض.
السياسة لا يمكن أن تكون بين جهات لا تعرف بعضها البعض، ولا يمكن أن يشارك فيها من لا تاريخ له…ويمثّل الغريب وإن فاز بالأغلبيّة الساحقة، تهديدا دائما…وعن طريق الغرباء تكون الاختراقات المؤذية. والشعبويّة تفتح الباب واسعا للمغامرات، وأكثر من يستغلّ هذا المناخ لوبيات الفساد والمافيا الرثّة.
وهي المافيا التي كانت ممسوكة بالوجه السياسي للقديم قد يستعملها للضغط في مفاوضاته وتسوياته. ولكن حين يغيب هذا الوجه السياسي الممثّل للقديم تتجه المافيا الرثّة إلى البلطجة واستهداف مؤسسات الدولة والديمقراطيّة وتصبح الشعبويّة حليفها الموضوعي لا سيما حين تكون ممثلة في مؤسسات الدولة وغير حازمة في ردّ البلطجة: فتكون التجربة بين تهديد للديمقراطيّة يمثّله الشعبوي ومهدّد بالديمقراطيّة تمثّله المافيا الرثّة مدعومة من قوى إقليميّة تعيش التهديد نفسه.
الإيديلوجي…السياسي…العولمي…الشعبوي…مراحل ومسارات في مشهدنا…وهي ليست مراحل تعاقبت وأفضى منها السابق إلى اللاحق، إنّها حالات متحايثة وأزمنة سياسيّة متجاورة…