في 2014 ثلاثة عوامل أساسية كانت وراء تواصل مسار بناء الديمقراطية في تونس:
-إجماع على فكرة الدولة، رغم الاختلاف حول مضامينها.
-مؤسسة أمنية وعسكرية وطنية خارج الرهان السياسي.
-لقاءٌ في الوسط بين قوى الاعتدال من القديم والجديد مقدّمةً لتسوية تاريخية تستقرّ عندها الديمقراطية لأعادة بناء البلاد.
في 2019 بدأ الانحدار باستهداف هذه العوامل الثلاثة، وكان ذلك مع انتخابه رئيسا للجمهورية.
-لم يتوقّف عن التحرّش بالمؤسستين الأمنية والعسكرية، والإصرار على جرّهما إلى حلبة الصراع السياسي وتجاذب القوى الفاعلة، وكان آخرها يوم أمس في الذكرى 65 لعيد قوى الأمن الداخلي.
-أخلّ بدوره الذي حدّده الدستور فصارت البلاد بلا ديبلوماسية وبلا سياسة وخارجية وبلا استراتيجيا أمنية، في وضع إقليمي متحرّك، وأصرّ على خرق صريح الدستور وعلى صلاحيات ليست له.
-أمعن في إرباك مؤسسات الدولة الأولى، ثمّ مرّ إلى التعطيل الشامل، في وضع تعرف فيه البلاد أزمة مركبة غير مسبوقة.
أقْسَم يوم خطاب القسم على احترام دستور البلاد وتشريعها، ولا حرج عنده اليوم في إعلان أحد فصول الدستور المتعلق بالقوات المسلّحة غير دستوري.
وقبلها لم يسمح للنيابة بمواصلة التحرّي في موضوع الطرد الفضيحة، ولا أجاب عن تسريبات عمّار والقصوري التي تذكره بالاسم، وهي وحدها كفيلة بعزله. تسريبات جعلت من رئاسة الجمهورية غرفة مظلمة فعلية تستهدف القضاء وتشتري الذمم وتفتح مؤسسة الدولة الأولى أمام عبث مرتزقة فرنسا و"حزب فرنسا".
ومع ذلك يجرؤ على رفع الصوت والتلويح بالنصر أو الشهادة…
هو بلا تاريخ يبرر علو الصوت، ولم نعرفه في مواجهة الاستبداد وتجمّعه إلاّ هِدَاناً...
يذكر النصر والشهادة؟؟!!
هو يعرف أنّه بمنحاه هذا لا يمكن أن يكون إلاّ منتصرا لصف الثورة المضادة مع السيسي وبن زايد وبن سلمان برعاية صهيونية، ويعرف أنّ التطبيع خيانة، وأمّا الشهادة فلعلّه يعني أنّه في كل الأحوال "سيسي مقلوب"...أداةٌ يُلقى بها بعد استعمالها.
لو كنتُ رئيس حكومة، وأمام هذا الصلف، لأقَلتُ وزيري الدفاع والخارجية، وعيّنتُ وزيرين بالنيابة وهو ما يتيحه الدستور. وهي إقالة لا تستهدف الوزيرين في شخصهما.. وإنّما أدنى الإجراءات في مواجهة استهتار بالدستور والدولة وبالسلم الأهلي.
لا خلاف في كون الحلّ الممكن يتمثّل في إرساء المحكمة الدستورية وتنقيح القانون الانتخابي والذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها...ولكن دون هذا عقبات في وضع حزبي وحكومي وسياسي هش، ودونه إجراء التعطيل المتلبّس بشكليات القانون، والمستهتر بمصائر الناس والبلاد.
لن ندّعي بطولة، في مثل هذه السنّ، وفي مثل هذا الموقع الذي لا نمثّل فيه إلاّ أنفسنا ولا نملك فيه غير الكلمة، ولكن بقي فينا ما يكفي من العزم على الدفاع عن حرّيتنا واليقين في مسار تأسيسها رغم ما أصاب المسار من ضرّ.
وقد كان لنا الشرف في المساهمة في مواجهة الاستبداد بما قدرنا، ولم يكن ذلك منا صبر ولا شجاعة حين ابتلينا بشيء من الخوف والقيد ونقص من الأموال والثمرات، وإنّما هو فضل من الله أن جعل خير أعمالنا في مرحلة الاستبداد خواتيمها. وسيكون الشرف أكبر وأجلّ بالمساهمة بما نقدر في بلوغ مسار بناء الديمقراطية غاياته…
في مواجهة الاستبداد تُبْلَى العزائم وفي معركة بناء الديمقراطية تُبْلَى السرائر…وها إنّنا نراها رأْي العين. لاحظّ له من السلطة غير الهذيان.. دعوه يهذي كمن غلبت عليه السوداء…ولا خوف مادام سقف الحرية المعمّدة مرفوعا بالسواعد عاليا…فهي إرثنا من الشهداء.