وسأكتفي بتقديم نماذج من التناقضات الجذرية داخل النهضة وحركة الشعب والتيار.. التي يُفترض أنها أدوات اشتغال الديمقراطية:
* انتخابات تسعطاش مثلت محطة مهمة في تاريخ النهضة... واكتشف الناس حجم الصراع داخلها بين نهضة الغنوشي ومحيطه الذي يريد استعمال الحزب لتحقيق حلم فرد مهووس بالزعامة والسلطة المؤبدة... مقابل مجموعة قيادات من الجيل الثاني ترى أن زمن تسلمها مقاليد الحركة قد حان. الصراع بدأ منذ المؤتمر العاشر وتمت لملمته تحت شعار أولوية التصدي لخطر الاستئصال الذي يستهدف الحركة داخليا واقليميا. يهمني في سياق التدوينة أن لا مصداقية لشعار الديمقراطية داخل النهضة.
الحد الأدنى من النزاهة يقتضي الإقرار بأن الانقلاب على انتخابات قائماتها التشريعية.. والتحيل على القانون الداخلي لتأجيل المؤتمر وتأبيد رئاسة الغنوشي هو دليل كاف على أن النهضة لا يمكن ائتمانها على الديمقراطية في البلاد.
* قياديان بارزان من حركة الشعب يختلفان جذريا في الموقف من نظام انقلابي عسكري في مصر. المكي.. وهو يمثل الصوت الأغلبي داخل الحزب.. يعتبر زيارة سعيد إلى مصر إعلانا للبدء في التخلص من الاسلاميين في تونس على طريقة السيسي. والديمقراطية؟ لتذهب إلى الجحيم.
زميله في الحزب فتحي بلحاج يعتبر نتائج الانقلاب المصري كارثة ويعلن تمايزه الجذري عن زميله القومي الانقلابي.
أما في الموقف من القراءة المسخرة التي ابتدعها سعيد ليوسع صلاحياته على حساب الحكومة غصبا عن الدستور، فحركة الشعب تميل كلها إلى صف التأويل المنحرف رغم أنها لم تصدر بيانا رسميا حول منعرج خطير كهذا.
الخلاصة حزب فيه انقلابيون لا يمكن ائتمانه على الديمقراطية في البلاد.
* التيار الديمقراطي... وهو الذي يتخذ من الديمقراطية هوية اسمية... خذله رئيسه ومؤسسه محمد عبو وتخلى بطريقة درامية عن رئاسته ليدعو سعيد إلى شبه انقلاب عسكري وحل البرلمان بسبب ما يسميه انسداد كل أبواب إصلاح منظومة حكم الجريمة. استقالته أربكت الحزب وشقته إلى نصفين.. سامية وأنصارها يتبنون حتى الآن رؤية محمد عبو والرئيس سعيد.. مقابل الشواشي الأقلّي الذي يتمسك بالحوار الوطني الجامع ويقف ضد اتجاه سعيد نحو تجاوز الدستور.
حزب بهذا التناقض الرأسي.. والذي يضم قياديين يراهنون كليا على رئيس يعلن عزمه على وضع حد للديمقراطية.. لا يمكن ائتمانه على المشروع الديمقراطي في البلاد.
طبعا هذه النماذج الثلاثة.. إذا أضفنا إليها رئيس دولة يبشر ببديل كوني عن الديمقراطية من تونس.. يصبح الوضع أقرب إلى الكوميديا السوداء.
ماذا بقي إذن؟
هل نأمل أن يصير هؤلاء ديمقراطيين فجأة؟ الفكرة الديمقراطية لا يمكن أن تصير قناعة عقلية بطفرة.. ولا نورا يقذفه الله في قلوب صدئة... الرهان على حتمية التقدم تفكير تبشيري ركيك.. لأن شعوبا كثيرة انحطت وانقرضت…
وحده فعل وطني عقلاني أخلاقي واع بخطورة اللحظة وتعقيداتها يمكن أن ينقذنا.. لتصير الديمقراطية ممكنا تونسيا.
وهي ممكنة.