توصيف :
نحن إزاء عجز تاريخي شامل: لم نهتد إلى طريق التقدم والنهوض الذي بحثنا عنه منذ قرنين تقريبا.. التقدم بما هو استقرار سياسي يحقق للإنسان شروط وجوده المادي وحقوقه الإنسانية المجمع عليها كونيا ويوفر له ظروف ازدهاره النفسي والعقلي.
لا أحب استعمال مفاهيم سوسيولوجية إجرائية نحتها فلاسفة غربيون لفهم سياقات تاريخية تختلف عن سياقنا. ولكن مفهوم "السيولة" الذي نحته عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان لتفسير حالة اللايقين والقلق الدائم والفردانية في المجتمع الأوروبي الحديث قد يقرّبنا من فهم حالتنا :عكسيّا نحن العرب وتونس تحديدا في حالة "تصلّب تاريخي.. نفسي/عصبي.. ثقافي/ديني.. خيالي/إبداعي...".. وما عجزُنا عن تأسيس دولة الديمقراطية والمؤسسات والحقوق والحريات والرخاء المادي إلا تمظهر لهذا التصلّب الشامل.
وهو تصلّب لا سيولة لأننا الشعب الوحيد في العالم الممتلئ باليقين النهائي الصلب. تحدّث مع أي شاب من شبابنا: الشباب الذي صوّت لسعيد، الشباب السلفي، شباب الحرقة والمغامرة القاتلة، شباب المخدرات والجريمة، ستجدهم جميعا ممتلئين باليقين المعرفي النهائي.. كلهم يرى أن ما يفعله هو الوجه النهائي للحقيقة والحياة.
بنية ذهنية جماعية مغلقة امتدت حتى إلى منظومات التفكير الايديولوجي بمختلف عائلاته. الإسلاميون والقوميون واليسار (الليبراليون غير موجودين فعليا.. كلهم بحقوقييهم ذوو أصول ثابتة في إحدى العائلات المذكورة) كلهم مصانع مغلقة تعيد إنتاج مرض تصلّب شرايين التفكير في شخصيتنا التاريخية المتحللة.
لذلك نجح الانقلاب بيسر وسلاسة في تجريف كل السياسة من دون الحاجة إلى استعمال القمع العاري والممنهج والشامل.. اكتفى بأن شق طريقه بالمراسيم وسط عجز وذهول وتواطؤ الأحزاب التي كانت تحتكر فكرة السياسة.
استنتاج :
نحن أمام نهاية دراماتيكية لمنظومات التفكير القديم بكل تلويناتها. لكن لصالح ماذا ؟.. ما هو البديل عن عمارة الفكر التي تنهار بالكامل؟... ببساطة نحن نواجه حالة عراء تاريخي كامل.
البعض يستبشر بالأمر ويتقبله على أنه "مسح ضروري للطاولة" من حماقات كل القديم للبدء من جديد. للأسف التاريخ ليس قطائع حادة تفصل بين قديم وجديد من دون تداخل بينهما...
بل الأمر أسوأ كثيرا.. نحن أمام دكّ ممنهج لدفاعات المجتمع الضعيفة من أصلها، تمهيدا لتولي الاستعمار المالي الشامل المعولم الحديث إدارة كل مفاصل الحياة في هذه الرقعة من جغرافيا العالم الذي في طور التشكل.