وأنت تغادر الطفولة نحو بداية الشباب، أي في قلب مرحلة الهشاشة/البراءة/السذاجة النفسية، وفي "طمبك" اضطرام الرغبات الغريزية العنفيّة الاحتجاجية المتمردة والحالمة داخل جسدك الفائر وخيالك الغضّ/الفارغ...،
قد يطرق سمعك صدفةً صوتُ معمر القذافي ينبعث من راديو ياباني الصنع جلبه والدك أو أخوك الأكبر من ليبيا، راديو موجاته معدلة دائما على الإذاعة الليبية لأسباب جغرافية خالصة، فتأسرك لكنته الليبية الطريفة وتنكيتاته المضحكة وحماسته البدوية في تحدّي أمريكا ب"طزّ" الشهيرة..، وتلتقي خلال دراستك الثانوية معجبين مثلك بحكايات القذافي فتكتشف "خالد الذكر" عبد الناصر وتنغمس في حلم الوحدة والاشتراكية وتشارك في التنظيم القومي الذي سينجز الحلم..،
فتصير قوميا في سن الرابعة عشرة،
وتبقى قوميا في سن العشرين، ثم في الثلاثين ثم في..الستين.
وقد تجرّب صدفة، وأنت طفل يريد أن يكبر، الصلاة في جامع القرية أو الحي، وتلتقي مجرّبين مثلك في طريق المسجد، فتتّخذ منهم أصدقاء، وتُغرم بأجواء المساجد وقراءة القرآن والتفسير والحديث وتاريخ المسلمين، وتقرأ عن مجتمع الصحابة فتمتلئ رغبة في العيش في مجتمع أنبياء وتشرع في دعوة أهلك وقريتك ومجتمعك وكل البشرية إلى بناء مجتمع النبوة.. فتصير إسلاميا حينها..
وتظل كذلك في العشرين وفي.. الستين.
وقد تستمع صدفة وأنت تلميذٌ طفلٌ في بداية الثانوي إلى نقاش نظري بين تلميذيْ باكالوريا يبدوان في عينيك حكيمين عظيمين وهما يذكران أسماء جميلة رنانة كماركس ولينين وتروتسكي وماو تسي تونغ..، أو كلمات غريبة من نوع الامبريالية والصراع الطبقي والبروليتاريا، فتقع في عشق "هذا الجو"، فتقترب منهما وتسأل سؤالا أو اثنين، فتجد نفسك منخرطا في خلية شيوعية، فتصير شيوعيا تحلم بالمجتمع الشيوعي اللاطبقي وأنت في الرابعة عشرة..،
وتظل شيوعيا في العشرين.. ثم في الثلاثين.. ثم في الستين.
هكذا، عموما طبعا، دخلت أجيال الايديولوجيا السياسةَ من الباب الخطأ. وعوض أن يأخذ الدرس الأكاديمي والقراءة الدؤوبة مكانهما في عقلنة هذه الانتماءات الطفولية، يواصل أغلب هؤلاء بكل فخر وطمأنينة طرق "الباب الخطأ" وخوض حروبهم البينية الأبدية بحماسة/سذاجة/أمية ذاك الطفل...
طفل الرابعة عشرة.
تبا.