بمقتضى صفقة يعترف فيها أمام المحاكم الأمريكية بتهمة واحدة تبرر المدة التي قضاها في السجن مقابل إسقاط تهم الخيانة عنه، تم أمس إطلاق سراج جوليان اسانج صاحب موقع/ثورة ويكيليكس، بعد 13 عاما بين اللجوء والسجن.
اسانج ليس مجرد صحفي استرالي مغامر متخصص في القرصنة الالكترونية. هو صحفي صاحب فكر راديكالي، يؤمن بالثورة أي بضرورة "إنقاذ العالم". ويؤمن أن تغيير العالم يحتاج عُدّة مفاهيمية عملية، لذلك هندس موقع ويكيليكس ليكون "منصة ثورة" حديثة تقوم على تحرير المعلومة/المعطيات/الحقائق لضمان المراقبة الأخلاقية للسلطة، لأن الديمقراطية بدون أخلاق فاسدة، والدولة بمختلف أجهزتها ليست إلا "علب معلومات". يؤمن أن الحقائق التي تحتكرها الدول يجب أن تصل إلى أيدي "الفاعلين العقلانيين".
البعد الفلسفي في شخصية اسانج كشفه حوار وحيد جرى بينه وبين الفيلسوف بيتر سينجر الاسترالي مثله سنة 2012 أجرته "المجلة الفلسفية". بيتر سينجر فيلسوف ثوري أيضا مثل أسانج. فيلسوف بيئي كتب عن" تحرير الحيوان".. وعن "الإنسان المرئي" ليقول أن الأنترنيت حوّل العالم إلى جسم شفيف مكشوف. ولكنه لا يدين الأنترنيت الذي يحتفظ بمعطياتنا الخاصة، بل يرى أن ذلك قد يجعل العالم أكثر أخلاقية لأن وعينا بأننا مكشوفون قد يجعلنا أقل شرورا.
بيتر سينجر يقارن ثورة الانترنت، التي كرّس لها اسانج نفسه، بثورة المطبعة التي جعلت أوروبا القرن 16 و 17 مركزا فكريا عالميا رغم قلة عدد القادرين على القراءة واقتتاء الكتب. ولكن العدد المحدود للقادرين فعليا على دخول الانترنيت في العالم يجعله يقرّ بصعوبة توقع أن يدخل العالم مرحلة شبيهة بثورة المطبعة الآن.
يبدو أن هذا الإقرار الواقعي هو الذي دفع صديقه اسانج إلى القبول المرير بصفقة/استسلام مع الإدارة الأمريكية التي أربكها بتسريباته المذهلة فوظّفت السويد وبريطانيا لهرسلته وطحنه.. حتى خضع.
هذه الصفقة أغلقت أمام الإنسانية منجم معلومات/حقائق كان يمكن أن تغيّر صورة العالم في عيون سكانه الممنوعين من المعلومة.
وحين نتذكّر تنافس بايدن وترامب أثناء مناظرة أول أمس في إثبات الولاء للكيان النازي، والتزامهما اللامحدود بتسليحه وتمويله، نتأكد تماما أن تحرير الإنسانية من سطوة التوحش الأمريكي هي أول مهمة يجب أن تُطرح على جدول أعمال العالم.
ولكن… تبا.