استقالة مديرة ديوان رئيس الانقلاب حدث مهم. سواء كان في سياق إعادة ترتيب "جراحي" للتوازنات داخل غرفة انقلاب مصرة على الاستمرار وتمتلك "الضمانات" الخارجية أساسا ثم الداخلية لذلك، أو أنه كان مؤشرا على ارتباك هذه الغرفة بسبب صراع أجنحة داخلها أو بسبب تطورات دولية مهمة في الملف التونسي المدولن بطبيعته.. وتحولات الإقليم والعالم الحالية تزيد من أهميته.
لذلك، ومع عدم التقليل من أهمية المعطيات الخبرية الجزئية المتعلقة بشخص عكاشة ودورها المركزي في انقلاب بشع رذّل السياسة والقيم المشتركة ويوشك أن يدمّر الدولة، أو المتعلقة بطريقة الاستقالة وتوقيتها، ومع استحضار ضرورة التثبت من دقة الأخبار المتداولة حتى لا نكون ضحية التضليل الممنهج لغرف الأخبار المصنّعة، بل ونسهم فيه بسذاجة غبية…
مع كل ذلك، من الواجب بذل جهد في فهم بعض المعطيات الصلبة ومحاولة قراءة اتجاهات تحولات جذرية واستثنائية ومصيرية بصدد الحدوث في بلادنا وفي جوارنا المباشر.
ما أرجحه.. هو أن ما يجري في تونس ليس إلا جزءا من مواجهة أمريكية روسية واسعة وخطيرة هي الآن بصدد التفاعل والتسارع في مواقع عديدة من رقعة العالم. فرنسا طبعا في قلب هذه المواجهة التي بدأت في ليبيا.. فهي التي قادت عملية إسقاط القذافي، ولكنها لم تغنم شيئا هناك. تم إذلالها وإخراجها من طرف تركيا (بضوء أخضر أمريكي تكتيكي) وفاغنر روسيا. والأرجح أن الانقلاب في تونس تم بترتيب روسي (تصعيد سعيد في انتخابات تمت إدارتها إلكترونيا) مع "استدراج" ذكي لفرنسا بحكم تموقعها التقليدي وجاهزيتها في تونس.. وخاصة بإغرائها بالانتقام من تركيا اللاعب الصاعد إقليميا والكفيل المعلن للنهضة التي تتصدر العملية السياسية في تونس.
رأيي أن فرنسا كانت متحمسة جدا للانقلاب ورعت بغباء خطواته الأولى قبل أن يتدخل اللاعب الأمريكي لمنع التغلغل الروسي التدريجي على ظهر فرنسا الغبية دائما (في مالي التي تعتبر مجالا حيويا فرنسيا تقليديا تم الإعلان عن تحالف بين النظام وميليشيا فاغنر وسط احتجاج فرنسي يائس). أمريكا بايدن بصدد تدارك خسائرها الاستراتيجية زمن ترامب الشعبوي الرث. وهي تفعل ذلك في تونس مباشرة أو عبر حلفاء أوثق من فرنسا مثل تركيا وألمانيا. لأن فرنسا تعيش على بقايا وهم مجد إمبراطوري بائد لم تعد تمتلك شروطه. وهذا لا يمنع طبعا أن تعهد إليها أمريكا بدور مهم بحكم جاهزيتها ميدانيا عندنا.
ضمن هذا السياق أفهم التخبط الفرنسي في إدارة الملف التونسي. ومنه هذه الاستقالة الممسرحة لمديرة الانقلاب.
استقالة لها معنى وحيد عندي إلى حد الآن :
يبدو لي أن نادية صارت عاجزة عن مجاراة نسق المعركة الدولية المحتدمة داخل القصر وحوله. وأن الدور الذي انتدبت من أجله (فرنسيا) تراجع، أو تم تعديله تكتيكيا، بما يضعف موقعها ويجعلها مرشحة أولى لدفع ثمن ما. فاستبقت الأمر.. أو تم "نصحها" وديا بأن تستبق.
هناك انسداد فعلي في الملف التونسي.. تماما كما هو الأمر في الملف الليبي المعطّل … ما أحدسه أنهما ملفان سيحسمان وسط صخب الحرب المتوقعة في أوكرانيا حاليا بين أمريكا وأوروبا من جهة وروسيا.
في أي اتجاه؟
ترجيحي أن الأمر لن يكون في اتجاه واحد… هي يالطا جديدة ربما.