الكتابة حديث مع فكرة متخيّلة أكثر منها ادعاء مساهمة في الشأن العام أو توهما لدور ما في الحياة السياسية.. وحين اقترحت أمس كمواطن عقد اجتماع لمجلس الأمن القومي لم أكن أعلم بدعوة سابقة لعقده اليوم. لم أبن اقتراحي على موقف جديد من الرئيس.. بل على معطى واقعي بسيط مفاده حالة تعطيل متبادل بين الرؤساء الثلاث لا حل له إلا طفرة "حياء" منهم جميعا تجعلهم يقررون تسويات بينية سريعة تمنع الغرق الوشيك للبلاد.
انتظرت أن يستدعي الرئيس اتحاد الشغل ويجد صيغة لإدماج مبادرة الحوار ضمن عمل مشترك بين الرئاسة والاتحاد.. ويثبت مرة أولى وعيا بمصيرية اللحظة وكارثيتها.. ولكن…
حدث الاجتماع اليوم.. ولم ينته إلى فشل فقط، بل انتهى إلى إعلان حرب بين الرئيس الجريح وتحالف حكم ثلاثي عجيب. الرئيس تحدث كطرف سياسي معارض جذري للائتلاف الحاكم.. قصف في كل الاتجاهات.. اتهم ائتلاف الغنوشي المشيشي القروي بإجهاض مبادراته السياسية وبتعطيل محاولاته استعادة الأموال المنهوبة لاقتسام الأموال مع ناهبيها.. سمّاهم في استعارة كوفيدية يرددها للمرة الثانية مرضا عضالا لا ينفع معهم لا علاج ولا تلقيح.. (كان يتجنب النظر إلى الغنوشي والمشيشي حتى لا يناديهم كوفيد واحد وكوفيد اثنان)..
الرئيس قرر أن يتقدم خطوة أجرأ في مسار إسقاط الحكم الحالي ( دون أن يسقط هو طبعا).. وهو يناور الآن في مساحته الضيقة بالتهديد بأنه لن يقبل وزيرا عليه شبهة فساد ليؤدي اليمين أمامه.. بلغة أخرى يقول: " ماكم عديتوها عليا ونحيتو الوزراء متاعي.. إلا ما نمرجكم ونمررلكم حاجة اسمها حكم…".
حين يصل الرئيس إلى الاحتجاجات الشبابية الأخيرة يثبت أنه يتخبط في مأزق.. من جهة يتحدث عن مرارة خيبة أمل الشباب والشعب المجوّع.. ولكنه يحذّر من أن هناك "من يجعل من الشباب حطبا يشعل فيه النيران ويتاجر برماده "..
يعني هو مع إدانة منظومة الحكم وتحميلها مسؤولية الفشل الاقتصادي والاجتماعي، ولكنه ليس مع الاحتجاج العنيف "الثوري".. كأنه يطلب من الشباب رفع صورته في المظاهرات وفرض الاستفتاء على مشروعه السياسي شعبيا بعد أن عجز عن تمريره من أحد ثقوب الدستور الحالي.
وهو أيضا لا يريد لمشروعه أن يمرّ عبر حوار اتحاد الشغل.. يرى في مبادرة الاتحاد إنقاذا للائتلاف الحاكم الحالي.. بل أخطر من ذلك.. يرى فيها تعليقا لمشروعه الجديد إلى أجل.. قد لا يأتي.
الخلاصة.. الرئيس "يفرفط" بحثا عن تغيير سريع لقواعد اللعبة.. لكنه لا يجد.. حتى الآن.. طريقة.
والائتلاف الحاكم يستعمل البراغماتية الباردة وكل صلاحيات التنفيذ.. حتى تلك التي تلامس الانتهازية العارية ( ولا أجد تفسيرا لإصرار المشيشي على ترشيح وزراء عليها شبهات فساد.. حتى إن كانت في مستوى الشبهة فقط.. إلا ضمن تسويات مشبوهة مع طرف داعم لحكومته بشروط).
سباق حسابات متقابلة يحرّكها نهم سياسي يصل حدود التوحّش.. حسابات يبدو أن العقل وحده لا يكفي لفهمها وعقلها. ألم يقل الرئيس نفسه أن الحملات ضده "حالة نفسية"… ؟؟؟
عندي عتاب شديد للمشيشي…
كنت تنجم تقصّ علينا هالنزاع الكل.. وفي عوض تعيّن روحك وزير داخلية في بقعة وزير الرئيس وتخرق الإجراءات الشكلية المقدسة.. كنت تنجم تكتب نص تعيينك ممهورا بالمقدمة التالية:
" بعد الحلول الفرنسي… والانسحاب الطوعي الفرنسي… ومجيء بورقيبة وذهاب بورقيبة… ووقوع جملة من الأحداث منذ عشر سنوات… وبأمر عليّ من المرشد الأعلى للدساتير… أقبل مضطرا مهمة تعويض ممثل القصر السعيد في الإمضاء على قرارات سموّ الرئيس في احترام كامل للفصل… كذا من كذا…".