تكاد تكون تونس الآن بلدا غير قابل لأن يُحكم. وفي نفس الوقت يتقدّم الجميع ليحكمه: أحزابا وجمعيات وأصحاب أعمال وعاطلين. وليس في الأمر مبالغة أبدا. رصدنا ما يجري من تطوّرات "تراجيكوميدية" داخل الأحزاب قبل أيام من حلول المواعيد الأولى لانتخابات ستفرز توازنات جديدة تتناقض التوقّعات بشأنها، فضلا عن رغبة البعض في تأجيلها واستبعادها من فرط غموضها. وهو موقف يستبطن رغبة في تعليق الديمقراطية نفسها إن لزم الأمر.
وانتهينا إلى غلبة اللاسياسة على سلوك الفاعلين في مشهد سياسي سريالي يفتح على مخاطر حقيقية، دون أن نلعن المستقبل الذي يظلّ حرّا ومتعاليا عن كلّ الإرادات المتناقضة.
في تونس، نحن أمام مشهد سياسي مائع ومعقّد ومتغيّر بين لحظة وأخرى، حتّى أنه يأخذ أحيانا منحى هزليا عبثيا يكاد يخلو من الحد الأدنى من "الجدّيّة" والبلد على بعد أيام من فتح باب الترشّح لدورة حكم قادمة بخمس سنوات كما تقتضي ديمقراطية "طارئة" يشكّك في جدواها جزء من الشعب، ويعد بمراجعتها بعض المتمتّعين بالحريّات التي يتيحها القليل الذي تحقّق منها، قليل يتّسع لفوضى التجريب والخوض في السياسة من أبواب النزوات الشخصية والطموحات المنفلتة إلى حدّ الهوس والعصاب. قليل ديمقراطي تحقّق بفضل صدفة تاريخية لم يرتق إلى فهمها وبناء شروط المحافظة عليها أغلب إن لم نقل جميع فصائل السياسة في تونس.
وبقدر هزلية المشهد وسرياليّته، يدرك الجميع أنّ البلاد قد لا تتحمّل طويلا كلّ هذا اللهو على حافة الهاوية. هاوية يتجنّب الجميع النظر نحوها فما بالك بالتوقّي من السقوط فيها.
من سيحكم تونس قريبا؟
على بعد أيام من فتح باب الترشح للبرلمانيات القادمة، نجد أنفسنا أمام مفارقة عجيبة: الجميع، أو كلّ "من هبّ ودبّ" يرى نفسه الأكفأ والأقدر على الاضطلاع بمهمّة حكم البلاد:
-"القديم" بمختلف عناوينه السياسية (من الناطق علنيا ورسميا باسم النظام الذي قامت عليه الثورة، إلى رافعي شعار عدم القطيعة الجذرية مع "مكاسب" القديم مع الحرص على تمويه ذكيّ يضمن لهم مرونة تقرّبهم من أنصار الضفتين معا)، هذا القديم يرى في فشل الجديد دليلا على عدم أهلية كل من جاءت بهم الثورة لقيادة البلاد، ويَعِد باستدعاء آليات الحكم المجرّبة وقد ثبت ل "الشعب" مع الوقت نجاعتها في تحقيق الأمن خاصة باعتباره شرط التنمية الأهم والضامن هيبة الدولة.
- و"الجديد" المتنوّع بدوره، يرى أن البلاد لم تُحكم خلال ثمان سنوات من قوى الثورة بل ظلّت محكومة بنفس اللوبيات القديمة التي أعادت الانتشار لا فقط لتمنع الحكومات الجديدة من تحقيق أهداف الثورة، بل لتدفع الأوضاع نحو مزيد من الانهيار والفوضى والفساد لخلق حالة سخط شعبي على الثورة والديمقراطية التي لم تفعل أكثر من تعميم الفقر وحماية الفاسدين. هذا الجديد منقسم أيضا بين:
1- ثوريّين راديكاليين يحمّلون مسؤولية فشل الثورة لرخاوة الصف الثوري في مواجهة الثورة المضادة والتهاون في مواجهتها منذ البداية بعدم سن قوانين إقصائية صارمة تحمي الثورة من عودة القديم المنتشر في مفاصل الدولة والماسك بالاقتصاد وبوعي الناخبين عبر لوبيات المال والإعلام.
2- وإصلاحيّين معتدلين يرون إمكانية البناء التدريجي على ما تحقّق من منجز دستوري بعقل توافقي تصالحي إدماجي يتمّ بمقتضاه طمأنة وقبول متبادلان من الجديد للقديم والعكس.
في المسافة الواسعة الفاصلة بين معسكري القديم والجديد، برزت خلال الانتخابات البلدية الأخيرة ظاهرة "المستقلّين" بحجم مكّنها من أن تصبح لاعبا وازنا في المجالس البلدية، ممّا يؤشّر على أن الظاهرة مرشّحة للاتساع في البرلمانيات القادمة وربما الرئاسيات أيضا. يبقى أن الاستقلالية عن الأحزاب ورفع لافتة المجتمع المدني والجمعياتي والتطوّعي لا تعني بالضرورة استقلالا عن لوبيات المال والسياسة المحلية والإقليمية والدولية، إن لم نقل أن الظاهرة قد تشكل تهديدا وجوديا لديمقراطية وليدة تحتاج أحزابا واضحة تعبّر عن الخيارات الوطنية الكبرى في دولة لم تستوف بعد شروط سيادتها واستقلالها.
حين نقترب أكثر من تفاصيل المشهد تتعمّق المفارقة ويتبيّن لنا أن قاعدة الانقسام السياسي الداخلي في تونس اليوم لا تقوم فعليّا على التناقض بين "قديم ضدّ ثوري" و"جديد ثوري". رهانات الفاعلين السياسيّين التي تبنى على قاعدتها المشاريع الحزبية الجديدة والتحالفات وتحدث على أساسها الانقسامات والانشقاقات وتنفجر بسببها أحزاب لم تستكمل بعد هويّتها، رهانات "طريفة" وتكاد لا تنتمي إلى السياسة، بما يجعل ما يدور من جدل وحراك وصراعات ومناورات ومؤامرات ومكائد .. ضعيفة الصلة بالتحدّيات الحقيقية التي يتوقف على الوعي بها ومواجهتها - فهما واستشرافا للحلول - مستقبلُ الدولة ذاتها. صحيح أن الدستور الجديد وما تمخّض عنه من هيئات عليا يبدو حتى الآن قادرا على احتواء مفاجآت السياسة و"طلعات" سياسيّين ضعيفي الصلة الثقافية بالديمقراطية، ولكنّ الجميع يدرك هشاشة ما تحقّق وقابليته للنقض بأسرع ممّا قام. وأسباب ذلك عديدة.
هل توجد أحزاب حكم في تونس؟
من أسباب هشاشة البناء الديمقراطي التونسي أن المنتظم الحزبي في عمومه لا يعدو أن يكون مشاريع وصول إلى السلطة لاحتكارها والتمتّع بوهم وجاهتها. وجاهة وهميّة مرَضية لا يمتلك أصحابها كفاءات لازمة في التصور والإدارة والتنفيذ تحتاجها البلاد فعلا ويتوقّف عليها مستقبل بلد تتراكم فيه نتائج عقود من الاستعمار المباشر ثم الحكم الفردي ثم حكم مافيا العائلة ثم الفوضى المفتعلة والمخترقة من لوبيات الفساد المحلية والدولية.
لذلك يصاب المراقب بالحيرة حين يقف على خلوّ المشهد السياسي التونسي من قادة رأي مؤثرين يحظون برصيد من الاحترام والتأثير لدي الرأي العام يخترقون به الأسوار الفاصلة بين مشاريع سياسية مشخصنة أو هي من بقايا الإيديولوجيات القديمة الرثة التي تجرّ خلفها صراعات القرن الماضي.
في غياب هؤلاء تخلو الساحة كليّا لفاعلين غامضين وأقوياء يوجّهون العملية السياسية من وراء سُتر، وهم أساسا لوبيات فساد وجريمة منظمة يوظفون أجهزة الدولة في تزييف الوعي العامّ ومصادرة السياسة أي إفراغ العملية السياسية من مضمونها الوطني بكل طرق التأثير والتوجيه والابتزاز والتعطيل والتخريب.
لم يعد خافيا اليوم دور التمويل الأجنبي الغامض والكثيف في صناعة أحزاب وجمعيات ومحطات إعلامية تتحكّم في المشهد التونسي برمّته. ضمن هذا السياق نفهم ما يجري من تحوّلات هزلية/كارثيّة في المشهد الحزبي.
نداء تونس: النداء الأخير!
بعد أن قلب هذا الحزب الجديد والمركّب من عناصر القديم معطيات السياسة سنة 2014 بفوزه في مواجهة حركة النهضة القديمة (والتي تحسب على الجديد فقط لأنها كانت محظورة قبل الثورة) بالرئاسة والبرلمان في مفاجأة خلطت أوراق الجميع بما فيهم الحزب الفائز نفسه، دخل نداء تونس مرحلة دراميّة فعلا. مباشرة انخرطت قياداته في صراع عنيف حول تقاسم مناصب الحكم انتهى بانشقّاق أغلب قياداته المؤسسة عنه لتنشئ أحزابها الخاصّة، يحرّكها في ذلك طموح واحد، هو أن ترث عن النداء الأمّ شبكته الانتخابية الضخمة المنتشرة في الجهات والتي ورثها بدوره عن حزب التجمّع الذي نسجها بدوره حين كان حزب الدولة الأوحد. لكنّ كلّ المنشقين عن النداء فشلوا في تحقيق حلمهم الشخصيّ الساذج، وبقي الصراع محتدما داخل نواة النداء الصلبة المرتبطة بأجهزة الدولة حتى المؤتمر الأخير الذي تمخّض عن نداءين تجري محاولات لأمهما ب"كلّ الوسائل".
من هذه الوسائل ما فاجأ به رئيس الحكومة الجميع بانحيازه لنداء ابن رئيس الدولة رغم أنه صار أقليّا ومعزولا وفاقدا للشرعية الانتخابية في حزبه، بأن "منحه" اعتراف الحكومة وتثبيت "ملكيته" للحزب تمهيدا لصفقة مع حزب "تحيا تونس" الطريف بدوره في طريقة نشأته. نشأة قابلة للاستئناف والتعديل وحتى الإلغاء في كل لحظة.
حزب "تحيا تونس"، أو حزب "ليلة قدر يوسف الشاهد":
جاء رئيس الدولة بيوسف الشاهد ليشغل منصب رئيس الحكومة "شكليا" ريثما ينتهي هو من ترتيب ما بقي من البيت الندائي استعدادا لاستحقاق انتخابي مصيري قريب. لكنّ الشاهد اكتشف خلال ممارسته للحكم دواليب الإدارة واحتكّ بمراكز النفوذ المالي والإعلامي واطلع على "ملفات" الجميع (بما في ذلك مسؤولي اتحاد الشغل الذين أعلنوا بحماس طفولي مشاركتهم في الانتخابات القادمة قبل أن يتناسوا قرارهم ويتراجعوا عنه في صمت، واضح أنه صمت اضطراري)، وتمكّن في الأثناء من نسج علاقات خارجية مع دوائر التمويل العالمية ومن تقديم نفسه لفاعلين خارجيين مؤثرين على أنه مشروع حكم قويّ قادر على فرض الانضباط على الجميع، انضباط تطلبه المؤسسات الدولية كشرط لتنفيذ برنامج "الإصلاحات الكبرى" في تونس.
ولإثبات ذلك انخرط في استعراض منظّم لقدراته في الحكم عبر زيارات فجئية مسرحية تعد بكل شيء ولا تغيّر شيئا، غايتها فقط صناعة "صورة" ضرورية للحضور في مخيال الناخب، وعبر تعيينات استرضاء وإغراء واستدراج لشخصيات سياسية قيادية في أحزاب أخرى فضّلت المنصب على أحزابها ( سمير بالطيب تخلى عن الامانة العامة لحزب المسار ليبقى وزيرا عند الشاهد، وأغلب قيادات حزب آفاق تونس وكثير من الندائيين وحتى أسماء نهضوية لا يستبعد أن يكون كان لها تأثير ما في دفع حزبها نحو تبني خيار الاصطفاف مع الشاهد ضد حزبه الأم).
لم تكتف الصدفة بإهداء الشاهد تجربة حكم مفيدة في تموقع مناسب لتغذية طموحه "الماكروني"، بل أضافت إليه صدفة أخرى جعلت النهضة تختار تثبيته في الحكم ضدّ رغبة صانعيه وتخطيطهم، فقدّمت له خدمة "العمر" أنقذته بها من خروج نهائي من السياسة بأن صوّتت لصالحه في البرلمان باسم المحافظة على الاستقرار الحكومي، والحال أنها فعلت ذلك توجّسا من تبلور خطاب تعبوي انتخابوي جديد في صفوف نداء تونس حليفها في الحكم.
خطاب يقوم على التنصّل من نتائج توافق "اضطراري" في اتجاه استعادة مشروع النداء "الأصلي" الذي كان سبب نجاح الحزب سنة 2014 وهو مشروع يمكن اختزاله في جملة سياسية واحدة:" تحشيد كل القوى المدنية الديمقراطية الحداثية لإنقاذ المشروع المجتمعي البورقيبي التونسي من الإسلام السياسي الأجنبي الزاحف على الدولة والمهدّد للجميع ولحقوق المرأة التونسية خصوصا".
اجتمع إذن طموح الشاهد وبراغماتيّته الجامحة بخوف النهضة (خوف تدعّم بالضغوط التي مارستها الرئاسة بملفّ "الجهاز السرّي" في ابتزاز مكشوف وعنيف جعل النهضة تهرب إلى الشاهد الماسك بأجهزة التنفيذ) فصنعا بالتقائهما الصامت (والذي ينكره أنصار الشاهد بشدة دفعا لتهمة التحالف مع النهضة) "حالة سياسية" جديدة يمكن عنونتها ب"حكم طوارئ". حالة ستتجلّى بوضوح أكبر عبر الطريقة التي تمّ بها تمرير التعديلات العاجلة الأخيرة على القانون الانتخابي والتي قدمتها الحكومة بدعم من النهضة لقطع الطريق أمام قوى "سياسية" موازية وافدة من خارج المشهد الحزبي التقليدي تهدّد كليهما.
فقد كشفت استطلاعات الرأي تراجع أحزاب منظومة الحكم الحالي في نوايا التصويت في الانتخابات القادمة وتقدّم جمعيات دخلت المجال العام من باب العمل الخيري والمدني قبل أن تقرّر فجأة توظيف ما حققته من رصيد شعبي في مشاريع سياسية مدعومة بقوّة مالية وإعلامية تتجاوز قدرات الأحزاب التقليدية ( ونحن هنا نقارن فقط ولا ننفي تمتّع الأحزاب نفسها بالتمويل والإشهار السياسيّين).
التعديلات الأخيرة التي يتوقّف عليها مستقبل الشاهد السياسي، وإن صادق عليها البرلمان، فإنها تظلّ رهينة إمضاء رئيس الدولة (مصادقة هيئة مراقبة دستورية القوانين نظنّها مضمونة). ولأن رئيس الدولة ما يزال الراعي الرسمي الذي يتوقف عليه مصير طموح/هوس ابنه السياسي، فقد اضطرّ يوسف الشاهد إلى تفعيل حسّه البراغماتي بدرجة فاقت التوقّعات ومَدَّ يده لعائلة الرئيس ب"هبة" سياسية تقرّ له ب"ملكية" حزب نداء تونس.
هبة تستدعي، بمقتضى انتروبولوجيا التبادل عند مارسال موس وأعراف الكرم العربي و"نظرية الرجولية" التونسية ( بعض المزح ضروري أحيانا لهضم ما يصعب قبوله في الواقع) لا فقط إلزامية قبولها، بل إلزامية الردّ عليها بكرم مماثل. يبقى أن تقدير قيمة الهبة المتبادلة تقدير سياسي خالص: فهل يقدّر الرئيس أن إمضاءه لتعديلات مصيرية بالنسبة للشاهد مقابلٌ مناسب لاستمرار ابنه في المشهد السياسي ولو بحجم صغير يمكّنه من الفوز بنصيب من الحكم في الانتخابات القادمة (وزارة أو كتلة نيابية صالحة للمناورات الصغيرة…)؟ أم أنه س"يضطرّ" للإمضاء لأن الهبة يمكن أن تكون في عالم السياسة عنوان طمأنة يحتاجها السياسيّون المغادرون من حصانة الحكم إلى عراء التقاعد؟
هنا تبلغ التراجيكوميديا السياسية التونسية ذروة من ذراها.
حركة النهضة ومصير الديمقراطية التونسية؟
يهمّنا من حركة النهضة تأثيرها على مصير التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس. وهو تأثير محوري وحاسم منذ أن دفعت انتخابات المجلس التأسيسي حركة النهضة إلى قلب العملية السياسية في بلد يشهد ثورة. فكانت خلال السنوات الأربع الأولى للثورة قطب رحى الجدل المجتمعي العنيف حول "هوية" الدولة في الدستور الجديد، جدل قسّم المجتمع حول مسائل نظرية شغلت النخب عن التفكير في حلول عاجلة لمشاكل الاقتصاد البنيوية، لينتهي الأمر بخروجها الاضطراري من الحكم "حفاظا على الديمقراطية" أمام إصرار خصومها على إخراجها من المشهد الوطني كليّا ليس بسبب ما روّجوا له من مسؤوليتها المحتملة عن الاغتيالات السياسية آنذاك، بل لأن حجمها الشعبي يسدّ أفق السياسة عن الجميع.
منذ ذلك الحين خيّم على الحركة هاجس الاستهداف وصار سلوكها السياسي محكوما بضابطين: عدم تصدّر مسؤولية الحكم من جهة، وعدم مغادرته من جهة ثانية. خيار مارسته ببراغماتية ملفتة بعد انتخابات 2014 التي حلّت فيها في مرتبة ثانية كانت مثالية بالنسبة لخيارها العام.
وهو موقع مكّنها من "التطبيع" مع الدولة ودفعها إلى التقدّم خطوات أخرى على طريق مغادرة الصفة الاسلامية (التي صارت تحيل بسهولة على تهمة "الإرهاب" بمجرّد أن تقرّر القوى الاستعمارية ذلك لتبرير تدخّلها المباشر لحماية مصالحها ومصالح وكلائها في الدول الباحثة عن استكمال سيادتها الوطنية واستقلالها)، نحو الصفة المدنية الخالصة. هذا الموقع المميّز والاستثنائي جعل من حركة النهضة حَكَما حاسما بين فرقاء السياسة في تونس، موقع يمكن النظر إليه من زاويتين:
- زاوية إيجابية نفعية ترى أن الديمقراطية الناشئة تحتاج حزبا قويا متماسكا على شاكلة النهضة لضمان سير العمل التشريعي وتوفير حزام برلماني وسياسي للحكومة، خصوصا مع غياب شبه كلي لأحزاب أخرى.
- الزاوية الأخرى فكرية استراتيجية ترى أن النهضة في ذاتها، وباعتبارها حركة تستمدّ وجودها من خلفيتها الدينية ولا تفتأ تستدعي عند الضرورة هويتها العقائدية الخالصة (كما حدث في قانون المساواة في الإرث)، تمثل عائقا ثقافيا تاريخيا أمام تبلور وعي سياسي مدني لا تقوم الديمقراطية إلا بمقتضاه.
لكن يبدو أن دور الحَكَم/المفتاح هذا لن يستمرّ طويلا. فهو من ناحية أولى لم يعد مقبولا من معسكر الأحزاب المنافسة للنهضة سواء النداء بنسختيه وبفروعه (مشروع تونس خاصة) التي لا يستبعد أن تعود إليه أو أن يذهب هو إليها، أو حزب الحكومة الذي تدلّ مؤشرات كثيرة أن الغرف التي تدعمه، وتدعم غيره في نفس الوقت طبعا، لن تتورّع عن التدخل بطرق مختلفة (منها ما رشح من تضخم غير طبيعي لسجلّ ناخبين وجدوا أسماءهم مسجّلين دون أن يبادروا هم بتسجيل أسمائهم) في العملية الانتخابية القادمة.
إلى جانب الأحزاب الديمقراطية الصاعدة في الانتخابات البلدية الأخيرة، خصوصا حزب التيار الديمقراطي الذي يتجه نحو تجذير التناقض مع المنظومة القديمة تحت شعار محاربة الفساد، مع الحرص على التمايز الكلّي عن حركة النهضة التي يراها مسؤولة عن عودة الفساد وقد احتمت به حين تمّ استهدافها مقابل حمايته تشريعيّا بتمرير "قانون المصالحة الإدارية" وتمييع مشروع العدالة الانتقالية. إضافة طبعا إلى ائتلافات سياسية جديدة ترفع شعار القطيعة مع منظومة الحكم الحالية بكل مكوّناتها ثم المستقلين.
هؤلاء كلّهم على اختلاف منطلقاتهم، إلى جانب الجبهة الشعبية الغارقة حاليا في أزمة داخلية ستؤثر حتما على حجمها الانتخابي القادم ولكنها لن تخرجها نهائيا من المشهد لأن لليسار حجمه شبه القارّ في نوايا التصويت، هؤلاء قد ينجحون في خلق أغلبية حكم من دون النهضة ليضعوا حدّا لهذا الدور/العقدة الذي تبوّأته النهضة كل السنوات الأخيرة.
دور يبدو أنها تسعى هي نفسها إلى "تجاوزه" ولكن في الاتجاه الآخر تماما. حيث تتجمّع مؤشرات على سعي النهضة للتقدّم إلى الحكم لوحدها وبوجه مكشوف بما في ذلك التنافس على منصب رئيس الدولة.
ورغم أنّ الأمر يتناقض كليّا مع خياراتها السابقة في "التطبيع التدريجي" مع الدولة والاحتماء بشريك/واجهة في الحكم، فإن أصداء الانتخابات التمهيدية الأخيرة لاختيار قائماتها البرلمانية عكس حالة اندفاع قاعدي يصل حدّ الهوس نحو الحكم. اندفاع ينطلق من أن النهضة صارت لها المقبولية الدولية ، خصوصا بعد زيارة رئيسها الأخيرة إلى فرنسا، والمقبولية المجتمعية الكافية لتحكم وحدها في ظلّ انهيار منافسيها، انهيار مفترض يبدو أنه أغرى رئيسها بالتقدّم إلى رئاسة الدولة في خطوة وإن لم تتأكّد حتى الآن فإنها لا تعدم متحمّسين لها ودافعين نحوها من الدائرة المقرّبة لزعيم النهضة، والذي يبدو بدوره منجذبا نحو تجربة يختم بها حياته السياسية الطويلة.
يظلّ السؤال الجوهري سؤالا وطنيّا يتجاوز النهضة ذاتها: هل تتحمّل الديمقراطية التونسية المستهدفة إقليميّا واستعماريّا، والهشة من حيث ترسّخها في الوعي الثقافي العامّ، عنوانا نهضويّا خالصا؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مناورة انتخابية تحسّن بها النهضة موقعها التفاوضي مع حلفاء ممكنين؟
التجريب الديمقراطي في تونس خلال تسع سنوات وما حفّ به من افتقاد لقيادات وطنية جامعة ذات قدرة على الاستشراف والتخطيط الاستراتيجي، ومن أخطاء وقصور وافتقاد للكفاءة اللازمة لكثير ممّن شغل مواقع في الحكم، كلّ ذلك في سياق استهداف واختراق أجنبيّين بهدف تعطيل تجارب التحرّر العربي، هذا التجريب انتهى إلى:
- عدم اكتمال نشأة أحزاب ديمقراطية خالصة تترجم وعيا مجتمعيّا مشتركا بالحريات العامة والخاصة وتؤمّن تجذّر الديمقراطية الجديدة واستمرارها.
- حالة تهريج سياسي جعلت السياسة مستباحة من طرف طامحين عُصابيين وشعبويّين ومدعومين من لوبيات فساد، ممّا خلق عزوفا شعبيا وشبابيا عن المشاركة السياسية بسبب فقدان الثقة في الديمقراطية وفي السياسة عموما.
- في المقابل، وبفضل الحرية الجديدة، ورغم التشويش المنظّم على هذه الحرية بغاية تزويرها، وبفضل اقتدار شبابي على توظيف شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الالكتروني عموما، تتبلورُ نواتات وعي جنيني بالمخاطر المحدقة بالديمقراطية التونسية المهدّدة.
وعي قد يفرز في الأفق القريب طبقة سياسية جديدة تشخّص علميا مشاكل البلاد وتشرع في حلّها من خارج العقل السياسي التقليدي المحدّق عاجزا في الهاوية.