فكرة أن لا خوف على ديمقراطيتنا من مخاطر الانقلاب العنيف أو التدخل الأجنبي المباشر لأن القوى الكبرى مجمعة على اعتبار تونس مخبرا لديمقراطية عربية دامجة للجميع وللتيار الإسلامي خاصة.. فكرة خطيرة قد تتحول إلى ثقب السفينة الخفيّ الذي سينتهي حتما بإغراقها.
في أحسن الحالات.. الأمر عندي لا يخرج عن التفاف _ ذكي في بداياته وفوضوي مرتبك مع حكم ترامب وغير متبلور حاليا مع بايدن. _ على موجة التحرر العربي الثاني بعد موجة المواجهة المباشرة للاستعمار الأجنبي.. استدراج المكوّن الإسلامي إلى تصدّر مرحلة انتقال دقيق ما بعد ثورات تحرر خالية من الايديولوجيا كان استدراجا ذكيا ومبرمجا في مراكز التفكير والتخطيط الاستعماري.. الثورات أسقطت حكاما أدوات ماريونات انتهوا جميعا إلى حكم عائلي وراثي فاسد ومافيوزي (مبارك وجمال، القذافي وسيف الإسلام، بن علي وابنه بوصاية ليلى، حافظ وبشار، عبد الله صالح وابنه...).. لنجد أنفسنا في قلب هوجة ديمقراطية انتخابية من دون أحزاب جاهزة بسبب انعدام الديمقراطية عبر كل تاريخنا..
هوجة مركزها حركات إسلامية جاهزة عصبيا عقائديا لا سياسيا.. بل مفتقدة كليا لأي فهم لا للدولة ولا للوضع الإقليمي والدولي المعقد والاستثنائي في تعقيده.. بما سهّل تدشين مسار الانقلاب على الثورات بطرق مكيّفة حسب خصائص كل بلد.. فكانت محرقة في سوريا بتوظيف إجرامي للسلفية الجهادية بإشراف مباشر لوكلاء أمريكا من بعض دول الخليج، وأساسا السعودية، وقطر والإمارات.. وانقلابا في مصر بإشراف صهيوني مباشر ورعاية مالية سعودية اماراتية، وحرب تدمير على اليمن يقودها وكيل محلى مسكون بدور إقليمي كبير، وفوضى مسلحة شبه مضبوطة اقليميا ودوليا في ليبيا.. والتفافا سياسيا ناعما ومطعّما بعنف محسوب في تونس.
ما حدث في تونس هو تخريب ممنهج للثورة برهن الديمقراطية الانتخابية لدى مجاميع ايديولوجية لا يجمعها أي رابط وطني وتختلف حول كل شيء.. حول هوية المجتمع وطبيعة الدولة ومحتوى الديمقراطية... فاستمر الانقسام العنيف بينها في الدرجة صفر من السياسة.. أي الصراع حول قواعد اللعبة /التنافس الشكلاني والهوياتي عوض التنافس حول خطط الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي العاجلة.
هذا المشهد الانقسامي تمت رعايته بما يشبه اتفاق ضعف ضمنيا بين غرف الاستعمار المتنافسة/المتقاطعة.. وما سمّي بقرار رعاية الديمقراطية في تونس ليس أكثر من تقاطع أجندات عجز و"تأجيل حسم" لأطراف دولية مرتبكة بسبب مرورها بفترات انتقال أيام اندلاع الثورات العربية.. وخلال عشرية كاملة يعيش كل العالم تحت وطأة "امبريالية غبية" رموزها ترامب الأبله وبوتين المجرم وساركوزي المحدود ثم ماكرون المائع والأصغر كثيرا من رئاسة فرنسا.
فرنسا المستعمر التقليدي فاجأتها الثورة في تونس.. فاندفعت إلى تدخل عسكري مغامر في ليبيا للتدارك.. ولكنها فوجئت بتفلّت خيوط اللعبة هناك من يدها.. تدخلت قطر والإمارات أولا بتفويض أمريكي كامل للمحافظة على توازن استنزاف متبادل بين أنصار القذافي وأنصار جديد " ليس بالضرورة ثوري" ريثما يتم رسم خريطة جديدة للهيمنة على ثروات ليبيا الهائلة من النفط.. ثم كان التدخل التركي غير البعيد عن الموقف الأمريكي.. تدخل كان حاسما وعلى حساب فرنسا.. والتدخل الروسي المبتزّ لها والمتفاوض باسمها في نفس الوقت.. وانعكس كل ذلك مباشرة وحينيا على تونس.. ولا يزال.
من سيحسم المعركة في تونس اذن؟
هو المدير العام لامبريالية المال في العالم.. هو عقل المال الذي يراقب ويضبط ويوازن اندفاعات السياسيين و"تزليطهم" وانحرافاتهم.. وهنا تلعب ألمانيا تحديدا الدور الأكثر صمتا ودقة.. باعتبارها القوة الاقتصادية القريبة جغرافيا والمتخففة من أثقال الاستعمار التقليدي الذي يجعل خطط فرنسا مكشوفة عموما.
هي الرأسمالية المالية المعولمة التي تموّل الحروب وتحرص على استمرارها بما يحافظ على دورة الإنتاج الرأسمالي الحربي.. في انسجام كلي مع قطاعات اقتصادية أخرى تتطلب السلم "المغشوش".. لهذا تحديدا أقول أن لا وجود لقرار دولي ممركز ودائم برعاية ديمقراطية تونس.. بل تقدير متغيّر لتوازنات دولية في مغرب عربي لم يكن يوما في مركز استراتيجيات الهيمنة الغربية.. ولكنه ليس معدوم الأهمية أيضا.
مستقبل التجربة التونسية دولة ومجتمعا يتوقف على طفرة وعي وطني يجمّد صراعات العبث المخزي والشروع الفوري في وقف النزيف.. القاتل.