حدث رياضي يبدو أنه الوحيد الذي يستطيع تحريك شغف وحماس وجنون أكبر عدد من الجمهور في كل شعوب الأرض خلف فرقها الوطنية في منافسة جذرية هدفها إثبات جدارة هوية. لذلك هو...
* حدث سياسي" وطني".. أي سياسي "كلّي". فحين يشارك منتخب دولة في تظاهرة عالمية تتجند له كل الدولة. من الرئيس إلى البوليس. الإدارات تصبح في خدمة ملحمة الفريق الذي يمثل "الراية الوطنية". حتى المعارضة السياسية تنخرط خطابا ووجدانا في الملحمة وتؤجل برنامجها السياسي المعارض إلى ما بعد انجلاء غبار المعركة الوطنية/الرياضية الكبرى.
* وهو حدث سياسي "دولي" "كلّي" أيضا. إذ أنه لا يسمح لأي دولة بالحياد إزاءه. من لحظة طبخ قرار اختيار الدولة المنظمة، وهي لحظة كثيفة سياسيا، إلى لحظة "إدارة" تفاصيل المنافسات على أرض الملعب و"خارجه".
* وهو طبعا حدث إعلامي عالمي لا يقبل المنافسة. فكل محطات الإعلام تعطي الأولوية لنتائج المباريات قبل قتلى الحروب والفيضانات والأوبئة وقبل الانقلابات والانتخابات المزورة، وطبعا قبل أخبار الموت تحت التعذيب وفي سجون الدكتاتوريات، فما بالك بأخبار ارتفاع الأسعار والفقر والجوع.
* وهو أيضا حدث اقتصادي... يقع في قلب الرأسمالية. حجم الاستثمار والإنفاق بمناسبة كأس العالم وفي كرة القدم عموما يكاد يصبح "نمط إنتاج" بذاته. فيه مالكو وسائل إنتاج:
صناديق استثمار تتبع دولا أو تتبع احتكارات رؤوس أموال خواص يشترون نوادي كرة ويبيعونها بأسعار كافرة. وفيه قوة عمل متمثلة في لاعبين/عمال يخلقون "الفرجة" للجمهور، ويأسرون خياله وحياته داخل "صور نموذجية للنجاح" والثراء "اللعوب". أما فائض قيمة "العمل الكروي" فهو وهم جماعي تُراكمه كل المجتمعات بشغف وتعصب ولاوعي من جانب الجماهير وبوعي كامل من جانب المستثمرين.
* كأس العالم حدث جمالي أيضا. مقابلة كرة القدم في ذاتها.. ثم تصويرها ونقلها تلفزيا هو عمل فني مكتمل. وليس اعتباطا أن يقترن افتتاح هذه التظاهرة الكبرى باحتفال غنائي وراقص. فضلا عن أن المشهد الكلي لحركة اللعب فيه تكثيف فني لقيم القوة المؤنسنة والسرعة والتناسق الجسدي الفردي والجماعي.. بما يجعل من الحديث عن "جماليات كرة القدم" أمرا مشروعا تماما. بل أنها جماليات إنسانية عابرة للثقافات وتتيح لمختلف شعوب العالم نافذة، وإن صغيرة ووقتية، للتعارف والاعتراف الإنساني المتبادل.
* ولأن مونديال قطر وضعنا كعرب في قلب العالم والتاريخ الحاضر... تبرز أسئلة تخصنا نحن كعرب :
هل الانتقادات "الغربية" لقطر موجهة لها لأنها عربية، أم لأنها جزء من الوجه القبيح للرأسمالية المعولمة المتوحشة؟ هل كل نقد عنصري بالضرورة؟ هل تمثل قطر "صورة الإسلام" المطلوب نشرها في العالم كما جرى تسويق الأمر على نطاق واسع؟
كيف نفسر نجاح قطر في تليين المواقف الغربية الرسمية وإخضاعها رغم ما سمي ب"الحملة الغربية العنصرية"عليها (الحكومة الألمانية وماكرون انخرطا في دعم مونديال قطر بعد أن عبرت كل من ألمانيا وفرنسا عن انتقادات عنيفة لقطر)؟
واضح طبعا أن تلويح قطر بمراجعة استثماراتها في بريطانيا أرعب ألمانيا وفرنسا، بما يؤشر عن حجم القوة المالية القطرية ووزنها السياسي. وبما يثير السؤال الأكبر : هل يمكن لهذه القوة المالية القطرية الاستثنائية أن تخرج عن قوانين الرأسمالية المعولمة المتوحشة المخربة للعالم والباحثة فقط عن الربح ومزيد من الربح.. ولو بتوظيف فولكلوري للدين والثقافات المحلية بخلفية سياحية استعراضية؟
هل يمكن ل"الرأسمال العربي المسلم " أن يغير طبيعة الرأسمالية؟
ثم هل يمكن للشعوب عيش هذه اللحظة الكروية الكلية "المكوننة" بعيدا عن استراتيجيات الفاعلين المتعددين الذين يديرون هذا الحدث الكوني باحترافية رأسمالية علمية يمكنها أن تعطّل أجهزة الفهم لدى مستهلكي"سلعة كرة القدم"، حتى لا تصير هذه الشعوب جزءا من هذه "السلعة" ؟؟؟