بشكل جماعي وفي انسجام لافت.. ردّدت فئات واسعة من التونسيين من مختلف الأعمار والمستويات الاجتماعية والتعليمية جملة ديماغوجية قصيرة وبسيطة وحاسمة "ما حاجتناش بالديمقراطية متاعكم.. نحبوا واحد يرتّحنا مالسياسيين الفاسدين الكل".
جملة تمثل عصارة حالة الاستلاب الجماعي التي شرّح آليات تشكّلها غوستاف لوبون في "سيكولوجيا الجماهير" منذ قرن وربع. نحتاج تشريح جذور هذا الاستلاب الجماعي الذي يجعل سقوط الجمهور في التدمير الذاتي سلسا وسريعا ويحيله إلى كتلة نار تحرق نفسها وكل ما في حولها لنفسّر حالة "الاستعصاء الديمقراطي" التي تسدّ أمامنا أبواب المستقبل حتى الآن.
في تصوّري تم تخريب مشروع الديمقراطية التونسية في لحظتين فارقتين.. لحظة انتخابات التأسيس 2011 ولحظة انقلاب 2021. تخريب عميق وذكي تم بوسيلتين أساسا:
تغذية وتوظيف تدين تونسي فريد أسميه " التدين النفسي التراثي/السلفي الهلامي ".. والقصف الإعلامي السيبرني التزييفي التتفيهي الديماغوجي الكثيف.
الوسيلة الأولى :
سنة 2011.. حملتنا الثورة بكل غموضها وتشابك حيثياتها إلى لحظة حداثة سياسية ومجتمعية مفتوحة... مباشرة تمّ إجهاض تلك اللحظة السياسية في حينها بتصعيد كيانات غير سياسية.. النهضة التي تصدّت لقيادة الديمقراطية والتحديث السياسي لم تكن كيانا سياسيا.. كانت جسما شبه سياسي شبه طائفي شبه وجداني شبه سري شبه سلفي.
ولأن التونسيين يستبطنون في عمومهم لاشعوريا وسلوكيا "تديّنا نفسيا تراثيا هلاميا".. تشوّهت العملية الديمقراطية منذ انطلاقها بنوعية الجمهور الذي انتخب النهضة بكثافة سنة 2011 (مليون ونصف صوت لحزب لا لزعيم ).. جمهور لم ينتخب بخلفية سياسية واقتناعا ببرنامج سياسي.. مطلقا.. بل انتخب تعاطفا نفسيا مع تصور هلامي للمتديّن المستقيم الملائكة "النظيف ".. فتضخّمت النهضة بشكل مَرضي في أذهان قادتها العائدين إلى التاريخ بعد انقطاع عقدين كاملين.. وتمّ إغراق السياسة في محلول غير سياسي منذ البدء..
هنا يأتي دور الاستدراج الغربي الاستعماري الذي رفع الشعار الفخّ الكارثة.. "إدماج الإسلاميين في الديمقراطية".. وبالتوازي قام بهندسة "الانفلات السلفي الجهادي" بشكل كثيف لتحويل وجهة الديمقراطية.. وتفجير معركة الهوية والعلمانية المدمرة والتي زيفت كليا عنوان الثورة.. ودخلنا حربا أهلية بين "إسلاميين وعلمانيين" وظيفيين تماما.
غرفة سعيّد اشتغلت بكثافة على دغدغة نفس هذا التدين النفسي السلفي الهلامي.. وعملت على تحويل ريعه إلى ورقة أخرى بعد اهتراء الأولى.. فقدمت سعيد إلى الجماهير وهو يصلي في المسجد وفي الجبل.. وهو يشتري الخبز بيديه الكريمتين.. ويقيم في بيته القديم وسط الشعب زهدا في بذخ القصر.. ويستدعي سيرة عمر في قصة البيضة.. و يتمسك بحرفية النص في مسألة الميراث ويساند عقوبة الإعدام بمنطق القصاص الديني... إلى أن استقرّ في مخيال العامة/الحشود القابلة للتلاعب والتوجيه.. أن سعيد رسول يجب لا فقط اتّباعه وطاعته طاعة عمياء.. بل حمايته "بالروح والدم "من كل السياسيين"الأشرار"..
يتبع…