منذ أيام قدم وزير التربية تصريحا مزلزلا: "يجب الاعتراف بأن المنظومة التربوية العمومية في حالة احتضار". وبعدها بأسبوع نزلت إلى السوق كتب جديدة تم إقرارها ضمن البرامج الجديدة التي تخص التعليم الابتدائي. يعني أن هناك لجان "إصلاح" أنهت عملها وقررت سرّا ونيابة عن الجميع (معلمين وأساتذة ونقابات ومختصين ومجتمع) ما يجب تغييره في برامج تعليم يردد الجميع، عن معرفة أو عن جهل، أنها تحتاج تغييرا.. وهذا لوحده ملف فساد كبير يفترض أن يكون المدخل الأنسب للإصلاح الحقيقي. لذلك أقول أن مدخل إصلاح التعليم وإصلاح المؤسسات العمومية والإدارة.. هو محاربة الفساد المعشش في شرايين الدولة.
آخر حلقة في طريق الإصلاح هو البرامج. وتصوير الأمر كما لو أن تغيير البرامج سيمكننا من إنتاج تلميذ نابغة هو كلام تافه لا علاقة له بالواقع. منذ سنوات طويلة، ومع كل امتحانات وطنية، تنتصب مناحات حول انهيار مستوى التعليم في تونس. والحقيقة أن الأمر يحتاج تدقيقا وتنسيبا لأن عوام الفايسبوك الذين ينصبون هذه المناحات ليسوا أهلا لتقييم واقع التعليم في تونس.
من واقع تجربتي الصغيرة.. أستطيع أن أؤكد أن المستوى العام للتلميذ ليس أسوأ من مستوى تلميذ السبعينات والثمانينات التي يتم اعتمادها للقياس. بل أنني متأكد أن نسبة التلاميذ المتميزين (في المواد العلمية والأدبية) حاليا تفوق نسبتهم في تينك العشريتين.
المشكل اليوم في الخيارات المجتمعية الكبرى :التلميذ يتعلم في محيط لا يؤمن بالعلم ولا يراهن عليه، عكس مجتمع السبعينات والثمانينات تماما، والذي كان لا يراهن إلا على مصعد المدرسة العمومية. مجتمعنا اليوم يحترم الثري (ولو كان تاجر مخدرات) لا صاحب العلم.
هناك مشكل العدد طبعا والبنية الأساسية. عدد التلاميذ كان محدودا جدا.. اليوم تضاعف عشرات المرات ولم يواكب هذه الزيادة تطور في البنية التحتية. هذا الانفجار ترتبت عنه تداعيات أخرى طبعا.. أهمها عجز إطار التدريس عن تأطير كل التلاميذ بنفس الجودة.. فبرزت كارثة الدروس الخاصة.. وتعقدت إلى أن أصبحت تعليما رسميا موازيا لا غنى لا للتلميذ (الذي لا يمكنه استيعاب البرامج في أقسام مكتظة) ولا للأستاذ الذي لم يعد مرتبه يغطي احتياجاته الأساسية.
أزمة التعليم العمومي إذن هي أزمة مجتمع تائه لم يحسم أيا من خياراته، وأزمة دولة يخترقها الفساد بشكل هيكلي، وليست أزمة برامج. فتحيين البرامج بما يواكب طبيعة المادة التعليمية في مدارس العالم أمر في غاية اليسر.
ولن يكون ذلك.. حتى يتولى قرارَ "الإصلاح" عندنا بشر من خارج شبكة المصالح المهيمنة الآن على الاقتصاد.. والسياسة.