من يريد تغيير المشهد السياسي حالا.. وبأية طريقة.. ثورة شعبية.. تخريب وفوضى شاملة.. اقتتال جماعي.. انقلاب عسكري.. تدخل أجنبي... ؟... المهم تتغيّر مكوّنات المشهد السياسي الأساسية.. وهي هنا الحكومة "المفاجئة" والأغلبية البرلمانية والحزبية الداعمة لها.. وفي درجة عاشرة.. وربما في الدرجة الصفر.. رئاسة الدولة؟
من هؤلاء ؟ هل نستطيع تحديدهم بدقة ؟ ولماذا لا يعلنون عن أنفسهم بوضوح كافٍ رغم أن مناخ الحرية الفائض وضعف الدولة يسمح لكل من هب ودب بالمجاهرة بالثورية والأناركية الراديكالية...؟ وهل ما جرى البارحة من تظاهر ليلى عنيف في بعض الجهات علاقة ب"مشتهي الثورة"...؟
أشعر بالحرج والعبث من ذكر الشخصيات السياسية التي جاهرت بنصف دعوة إلى إنهاء المنظومة الحالية برمتها.. بالشارع.
حمة الهمامي.. أخرجته الانتخابات كليا من العملية السياسية القانونية وأعطته في الرئاسية مركزا مهينا لصالح مرشح نكرة وبصفر سياسة، وصفر مقاعد في البرلمان، وأنهت زعامته للجبهة الشعبية، فعاد سعيدا ويائسا إلى خطابه الراديكالي زمن السرية.. بعد فاصل ديمقراطي "بورجوازي" بعشر سنوات.
محمد عبو.. في آخر حوار له قال أن الدولة الحالية غير شرعية وأن كل جهات الحكم فاسدة والقضاء لا أمل فيه.. والأهم أنه يرى الحل في الشوارع.. من سيتظاهر في الشارع لقلب المنظومة؟ الشعب.. وكأنه نسي أنه هو من قال أن الشعب لا يحسن الاختيار. يعني الشعب الجاهل في الصندوق سيصير واعيا وحكيما في الشارع!!!
لست من أنصار الأحكام العامة والنهائية.. لذلك أكتفي بتسجيل نشاز الصورة: الكادر الحقوقي القانوننجي القديم لا تناسبه لغة باكونين.. "حاجة ما تركبش". هذان طرفان راديكاليان ولكنهما من دون وزن في الشارع.. تقريبا.. أقول تقريبا لأن أجندة حمة، والرحوي الوطد، تتقاطع جزئيا مع برنامج اتحاد الشغل.
وهنا عقدة من عقد المشهد : اتحاد الشغل عند اليسار الشيوعي الثوري نقابة إصلاحية "صفراء" ويكاد يتحول نهائيا إلى" جزء من الديكور الديمقراطي" لدكتاتورية رأس المال المتوحش.. وتحويله إلى نقابة "حمراء" تقود نضال الجماهير نحو "افتكاك الحكم" وإقامة الاشتراكية صار محل شك.. لذلك يدخل اليسار الناشط داخل الاتحاد الآن في مأزق نظري وتاريخي.. ويبدو أن كسله النظري وانحساره الشعبي اضطرّاه إلى البقاء داخل الاتحاد والمواصلة في تزيين المشهد البرجوازي بلعب دور الوسيط السياسي بين المتنافسين على الحكم من "البرجوازيين".. وهنا تأتي مبادرة الحوار الأخيرة التي يريدها الطبوبي العاشوري الإصلاحي ويتلدّد في تبنيها الوطد والبوكت والقوميون المترددون أمام وضع ينذر بفوضى قد تنسف من تحت أقدامهم البيت النقابي برمته فيخسرون نهائيا الأصفر وأمل تحويله يوما إلى أحمر.
لم يكن لغو حديث أو حماسا زائدا أن يقول المغزاوي ( أمين عام حركة الشعب التائهة نظريا بعد أن غادرت نصف جدل العصمتي وارتدت معه نصف الجدل الماركسي) أن اعتصام الإرادة الأخير في البرلمان سيلتحم باحتجاجات الشعب في الجهات للمطالبة بإسقاط منظومة الحكم. وأساسا البرلمان والحكومة...
وهنا عقدة أخرى : الرئيس سعيّد، ورغم أنه أول من تبنى فكرة تغيير المنظومة برمتها لأسباب هلامية معلومة، ورغم أنه على رأس من توجه إليه اتهامات بالوقوف وراء العنف الذي انطلق البارحة ( وهو أمر لا أرجحه بل أستبعده تماما).. الرئيس صار عائقا أمام دعاة إسقاط المنظومة من يسار وقوميين وعبوويّين داخل التيار.. لأنه جزء من المنظومة الحالية وإسقاطها يعني آليا إسقاطه هو أيضا.
لذلك حاولوا تمكينه من وقت كاف لتدبير أمر تغيير ما من موقعه.. فوّضوه (بدرجات طبعا) لاستعمال سلطته بطريقة ما ليعيد ترتيب قواعد اللعبة.. ولكنهم لم يتمكنوا من توفير مدخل آمن ونهائي للهدف المعلن.. تذكروا أصدقائي الذين ستناكفون هذا الطرح أن هدف إسقاط المنظومة من كل من ذكرت معلن...
بل أنه معلن بشكل أوضح مما تعلنه عبير المخبرة.. عبير تعتمد الفوضى في البرلمان لتعطيل سير الحكم.. وتناور بعناوين "قانونية" من نوع سحب الثقة من رئاسة البرلمان... الخ.. ولكنها لا تتبنى حراك الشارع لأنها أخبث من العجولين الخفاف انتخابيا.. هي تنتظر أول محطة انتخابية لترث كل ثمار الفوضى الحالية التي تسهم كل مكونات "الجديد" في إنضاجها لصالح عبير.
بقي سؤال العنف الحالي وعلاقته بغيفاريّي الزمن الديمقراطي.. في غياب المعطيات البوليسية حول هوية المتظاهرين الليليين ، أرجح أن أسباب التظاهر الشبابي موجودة وحقيقية.. كثير من شباب أحزمة الفقر فاقدون فعلا لأفق حياة تحفظ كرامتهم أمام ما يرونه من تفاوت اجتماعي صارخ ومن غياب لقانون يحاسب الفاسدين ومن شروع حقيقي من الدولة في إنجازات اقتصادية تحيي فيهم أملا في المستقبل.. هؤلاء قد يتظاهرون من تلقاء أنفسهم للاحتجاج العفوي وحتى العنيف..
ولكن هؤلاء ليسوا "مادة سياسية". حتى إن تمكنت جهات سياسية من اختراقهم ببعض الباندية ورموز الجريمة المعروفين سواء للضغط على المشيشي لابتزازه، أو حتى تمهيدا لفوضى أكبر قد يتم دعمها بميليشيات منظمة لإنضاج تغيير جذري ما، فإن هؤلاء ليسوا مادة كافية ل"ثورة".. الثورة لحظة عميقة في أرواح الناس، وعالية في خيالهم.. لا يكفي لصنعها غضب شبابي مشروع وتلقائي ووطني، ولا يملك أن يصنعها مرتزق عند ايديولوجيته الرثة.. أو أسير وهم شعبوي سخيف.
... فإن أصرّوا... فهي العنف الأحمق الذي يودي بالجميع.. بدءا بمطلقيه الحمقى.. وانتهاءً بالمراهنين عليه الأشد حمقا.