بعد بورقيبة.. الذي يصنَّف، رغم كل النقد الممكن لتجربته، رأس زعماء الإصلاح السياسي والتأسيس الوطني.. والذي ساهم من موقع مركزي في تشكيل هوية تونس.. الليبرالية الاجتماعية سياسيا، والحداثية المنفتحة على الغرب ثقافيا واجتماعيا.. ثم الاستبدادية الفاسدة هيكليا.. جاء بن علي في لحظة انسداد سياسي وصراع على خلافة بورقيبة الهرم بعد أن دستر مسخرة الحكم مدى الحياة بتحريض من بلاط فاسد.
جاء بن علي العسكري شبه الأمي، ولكنه سينجح في بناء "عصبية حكم" قوية وناجعة بفضل أسلوب القهر العام. فحكم بمستشارين وحكومات تكنوقراط خاضعة ب"التسخير القهري".. وأدمج نخب المعارضة واتحاد الشغل بالاستزلام والاختراق والقمع.. إلى أن تهاوت أسس حكمه بسبب "تحلل العصبية".. فقد انفلت فساد العائلة الموسعة (التهريب والتجارة الموازية والمخدرات...) من ضبط الدولة.. بل صار على حسابها.. وبالتحديد على حساب البرجوازية الناظمة لجسد الدولة.. فكان أن تخلّت عنه أجزاء مهمة من الطبقة الممسكة بالثروة لأنها صارت مستباحة من عصابة العائلة وأحزمتها المافيوزية وبوليسها. فكانت الثورة.. وهي ثورة في حينها.. لا بعد ذلك.
لأن الذي حدث بعد تفكك أجهزة العنف وذهول مراكز النفوذ التقليدي سيكون.. كارثة.
صعدت "عصبية الجماعة المهاجرة دينيا في الزمان.. وجزء منها في المكان أيضا" إلى واجهة السياسة.. لا الحكم. إذ ظلت المفاتيح الكبرى للحكم بيد مراكز المال المعولمة خارجيا والمشتتة داخليا.. والتي سرعان ما تحركت غرف التخطيط الخارجي لتجميعها في مشاريع حزبية.. فلم تتوفر شروط ظهور السياسة/العقل..
وظللنا ندور حول محاور الهوية ومصادر التشريع.. قبل أن نغرق في وحل الطموحات الفردانية المنحرفة بدءا بالباجي وابنه، والشاهد، والغنوشي، والقروي.. وصولا إلى 7 نوفمبر الجديد المسخرة.. الذي حدث يوم 25 جويلية.
الانقلاب الأخير تتويج لمهزلة سياسية كان يجب أن تتوقف. لا النهضة بزعيمها المريض بالسلطة تصلح للسياسة. ولا القلب أو الكرامة مشاريع سياسة. ولا عبير أو شعب الحداد أو تيار سامية مشاريع سياسة.. فكان سعيّد التتويج التراجيدي الكوميدي لفقر سياسي طويل.. ومستمر.
السؤال إذن: هل نمتلك شروط خروج قريب من هذا العار؟
الجواب السريع أننا نمتلك فعلا كل شروط.. انهيارات أشد. يكفي أن كل عناصر الطبخة القديمة الفاسدة نفسها.. هي التي تستعد وتصرّ على إعادة الانتشار بنفس أمراضها التي أنتجت كوميديا انقلاب 7 نوفمبر 25.