أطرح السؤال في سياق محاولة التقاط عناصر تعريف أدنى للّحظة السياسية التي نعيش. أمس قالت عبير موسي كلاما مهما عن سعيد. قالت أنه يتقاطع مع حزب التحرير وأنه جزء من الإسلام السياسي. وأن أخاه نوفل في قلب مشروعه. دليلها أنه لا يهاجم الإسلام السياسي بكل فروعه مطلقا. وأنه لا يساندها في حربها ضد هذا المشروع. وأن خلافه مع النهضة شخصي بحت.. تعني ضمنيا أنه يريد التفرد بقيادة مشروع الإسلام السياسي.
هذا الرأي لا يخلو من وجاهة. بنية سعيّد الذهنية والنفسية دينية محافظة جدا وضحلة جدا. وهو ما أطمع أصحاب "الأجندات الذكية" فيه. وجدت فيه مادة استثنائية لصناعة "شعبوية" فعّالة جدا تتناسب مع بنية ثقافية مجتمعية خالية كليا من العقل. فاستثمرت فيه بصبر. واخترقت به الطيف السياسي المحسوب على الجديد بعد أن تآكلت المشاريع الحزبية الكثيرة التي صنعتها المنظومة القديمة بمختلف مراكزها المتقاطعة والمتنافسة (نداء تونس مشروع تونس آفاق الاتحاد من أجل تونس... الخ). واخترقت به أساسا البنية العاطفية للناخب التونسي الذي لا تختلف علاقته بالسياسة عن علاقة جمهور كرة القدم بفرقهم.
هكذا تمّ تصعيد قيس سعيّد بشعارات الثورة وجمهور الثورة وأحزاب الثورة.. لقتل الثورة.
من صعّده ؟
العمل التعبوي التحشيدي لصالحه منذ الدور الأول هو عمل علمي لا يستطيعه إلا جهاز كبير ومنظم ومتخصص.. أي جهاز دولة.. أو أكثر. تصعيد ترامب قبل ذلك كان أعقد كثيرا ونجح.
أنا ممن يعتقد أن غرف الحكم التي تهيمن على العالم ماليا أساسا صارت "مستقلة" نسبيا عن دولها الأصلية. الإمارات وقطر مثلا هما مركزان دوليان للتخطيط العالمي ماليا وسياسيا. ليسا دولا بالمعنى التقليدي. هما مِخبرا سياسة معولمان. وداخل أجهزة كل دولة ممثلون لتلك المراكز المعولمة.
يعني أن قرار المراهنة على سعيد انتخابيا،ثم انقلابيا، لا يمكن أن يكون إلا قرار غرفة سياسية معولمة. وهو الآن مجمّد نتيجة مفاوضات/مناورات بين تلك الغرفة ومنافساتِها في منطقة جديدة تماما عن هذه التقاليد الاستعمارية المستحدثة.
في هذا السياق أفهم التخبّط الفرنسي في رعاية الانقلاب. فرنسا تم توظيفها في الانقلاب لأنها تمتلك أفضلية الميدان والتاريخ في تونس، ولأنها ذات تقاليد انقلابية عريقة في افريقيا. ولكن يبدو أن علاقتها بسعيد الذي لم يكن يوما "متاعها" بلغت حدها. حتى فرفشات زيارته لفرنسا والمكالمات الكثيرة المعلنة بينه وبين ماكرون (خصوصا تلك التي أعلن فيها رئيس فرنسا عن خارطة طريق تونسية قريبة فيما يشبه الإملاء المباشر على سعيد)، لم تكن إلا محاولات فرنسية لضبط الخطة التي لم تضعها هي.
عقدة الأزمة الفريدة في تونس الآن هي في تقاطع غير مسبوق بين قوى تدخل تونس وشمال افريقيا لأول مرة (روسيا والصين وإيران).
تذكّروا المفارقة الطريفة السخيفة : سعيد في الانتخابات كان رهان الإسلاميين بنهضتهم وائتلافهم (مع آخرين أقل حماسا منهم)، وفي الانقلاب صار رهان حركة الشعب القومية بحماس وجودي. سعيّد فيه من هذين الطرفين ما يغري بالمراهنة عليه.. منذ ظهوره سنة 2011 في مشهد الإفتاء القانوني الشكلاني.. كان من السهل تصنيفه متدينا عروبيا تقليديا محافظا وفي صف الثورة.. ولا يزال كذلك رغم كل ما فعله، وهو قليل، وما "فُعِل به"، وهو الأكثر.
الآن.. يبدو أننا وصلنا إلى النقطة الحرجة في التقاطع الوظيفي بين الهوية السياسية الكاراكوزية لسعيد شخصا ومشروعا.. والخطط الجدية لمديري العالم : غرف السياسة والمال الدوليين تقبل حتما بتوظيف الشعبوية الحمقاء، ولكنها لا تراهن عليها استراتيجيا.
القذافي حالة نموذجية لفهم هذا.