تعوّدت القبيلة العربية أن تحتكم في مجال تسيير شؤونها إلى توريط كافة العشائر، فتسند المهمّات المعيشية أو الصّلحية أو العسكرية إلى أفراد يكونون تابعين دمويا و مكانيا لها. و كانت دار الندوة هي النموذج الأرقى لاجتماع أعيان القبيلة لتبادل الحوار و مناقشة أهمّ المشاكل التي تطرأ. و يقع إصدار بيانات يتلزم بها جميع شيوخ العشائر القبلية و تعلّق في جدار الكعبة لإعطائها الصّبغة الطقوسية.
هذا التّصوّر الكلاسيكي لإدارة الشّأن اليومي مازال منغرسا في تربة التفكير السّياسي، وهو يرتدي أقنعة تخفيه، و لكنها تصدر عنه. و تجد ميلا عند الجمهور، ولعلّ أبرز مثال على بقائه في المخيال الشّعبي هو طريقة "القسّامية" لتقسيم اللحم بعد ذبح الخروف أو العجل. فتلك العادة هي تجسيد فعلي لتوزيع الحكم أو الغنيمة أو قطع اللحم.
ولم يعرف ذلك النموذج إلا تنويعات على الأصل القبلي، بل احتوى جميع الرّوافد الحكمية الدّاخلة عليه. و انصهرت فيه الدّيمقراطية و أصبحت حكم الأقلية للأغلبية ، و ابتلع الشيوعية، وأصبحت حكما عسكريا كليانيا يقوده مجلس قيادة الثورة. صمد ذلك النموذج في وجه جميع التيارات الفكرية و النزعات العقائدية الحديثة. ولم تستطع التّأثير في المخيال السياسي و بقي مكرّسا لطريقة حكم بدوي ريعي.
لم يتغيّر سيناريو البحث عن الحاكمين في دول العرب حتّى و إن كان الشّرط لبس معطف حقوق الانتخاب و إرسال جدائل الدّيمقراطية في أخبار الثامنة مساء. فالقبيلة تغيّر اسمها إلى دولة و العشائر أصبح اسمها إسلامي و قومي و ماركسي و دستوري و غيره من تسميّات تبحث عن مراجع خارج دائرة القبلية التائهة في تاريخ الضّياع. ولكنها تتصرّف بمقتضى عصبية القبيلة الماكرة.
بقي اقتسام غنيمة الحكم الّتي أصبح الوصول إليها عبر عبارة المصلحة الوطنية طنّانة تخرس جميع من يريد مدّ يده إلى قصعة اللحم الذّي يقطر دما. و لم تفلح ربطة العنق و اللكنة الأجنبية في إخراج البلاد العربية من دائرة التّخلف و الجهل و الاستبداد. وبقي الحاكم يقود أعراسا انتخابية تساعده فيها مجموعة عشائرية( حزبية وجمعياتية حاليا) تنال حصّتها وتعرف نتيجتها قبل فتح الصّناديق. و لا يهم أن يكون المنتخب حيّا أو ميّتا. ففي الأخير هو مستعبد حيّا و مستلق ميّتا.
يستغرب عديد المتابعين للشؤون العربية : لماذا كلّ الدّول الّتي زامن استقلالها الدّول العربية تقدّمت و قطعت مع التّخلف إلاّ العرب؟
هو سؤال لن تقع الإجابة عنه أبدا، لأن المستفيدين من حالة الضياع أقل من الحريصين على تقدّمه.فالمرجعيات الفكرية المستكرشة فهمت أنّ الشقاء في تعليم المواطن و تنويره ينعكس سلبا على نصيبهم من غنائم الحكم. وبقاء ابن الجهالة في سفاهته أفضل من منازعة أكابر العشائر الحزبية التي تتلاعب بالتغني بمصلحته ولكنها تستفرد بالجاه و المغنم لإعوانها و خدمها من السّلطان الأكبر.
بقيت صورة التنظيم القبلي و تحكّم شيوخ العشائر هي التّطبيق الفعلي لنموذج حكمي قديم عتيق فاسد في مخرجاته. و حافظ على دوام الرّجعية و شرب بكل سهولة كل التقدّمية. و انزلق إلى حكم عضوض يجتر آلياته و يسوّف في منجزاته.
متى يصبح عندنا مشروع مجتمعي يضع الحكم بيد المفكّر العاقل و العسكري الصّالح و المعلّم القادر؟ مشروع يجعل الإنسان في مرتبة المواطن الواعي البصير. وهو مشروع يضع في كتبه
" كن أنت الّذي يغيّر و لا تترك غيرك يعدك بالتغيّر"