لا شكّ أنّ مهمّة الوزير المكلف لم تكن سهلة، فالرّجل ليست له وجهة واحدة؛ بل تتقاذفه رياح أهمّها كيف يكسب الودّ الانتخابي و المرور إلى جلسة منح الثقة بأخف الأضرار. هو يعلم أنّ ما يريده لا يمكن أن يوافقه عليه أحد. فالأهواء مشدودة إلى كرسي الوزارة، و العقول تبدي كراهية مقنعة و تضع في أسلة لسانها مصلحة الوطن.
تلك التميمة المقدّسة تخرس المناوئين و تجعل تنبيرهم في خبر لعين. ولكن لماذا الكلّ يريد الوزارة؟ و العارفون يعلمون أنّ عمل الوزير ليس له من صلاحية غير الإمضاء على أوراق تصريف الأعمال. فهو في أحسن الأحوال الامر بالصّرف. أي المال الّذي يخرج من بين حبر أصابعه المرتعشة أمام سطوة مديرين هم الحجر الصّوان غير القابل للتحويل أو التفتيت. وحده التقاعد يجبرهم على الزوال.
هؤلاء المديرون العامون و من تلاهم هم الذّين يشرفون على الإدارة، وهم الذّين يخطّطون و يبرمجون و يسهرون على تنفيذ جميع الأعمال الإدارية. أولائك منهم الأكفاء و المهنيين و منهم جمع غفير دخل عن طريق الولاء الحزبي، وكان اختيارهم في زمن الاستبداد بعناية الرّجيف و سطوة العنيف. و كانت تسميتهم تنبني على الولاء التام إلى المنظومة الحزبية. و لا تنزعج إذا سمعت أحدهم يصرخ في وجوه الموظفين:" لو كان موش الحزب.. الّذي ……… لما وجدتم لي مكانا. و أنا موجود من أجل ……. و سأفعل بكم …….. " ) أعتذر عن عدم ذكر بذاءة الألفاظ(.
وقع تطهير الإدارة من أولائك الموالين حزبيا، و خرج العديد منهم بتلك اللكمة اللفظية Dégage وعرفت الكفاءة طريقا؛ و لكن عادت ريمة لعادتها القديمة، و استندت الزّمرة الحاكمة الجديدة إلى تلك الطٍّريقة، ووضعت يدها على مراكز إدارية مهمّة، و صاح الجمع المناوئ. و ساءت الحال.
وظهر على السّطح لاعب اجتماعي سعى بكل احتجاجاته و اعتصاماته و إضراباته إلى لعب دور " الباندي" في فرض التعيينات الإدارية و أجبر الباقين من الموظفين على التمرّد على القوانين و تمتيع " النقبوت" كل ما يريدونه شرط عدم مهاجمتهم و ترديد تلك اللكمة اللفظية" Dégage. و أصبح ذلك اللاعب يتدخلّ في تسيير الإدراة على هواه، و استل سيف تعطيل مصالح المواطنين من غمده و إجبارهم على العودة إلى ديارهم على القدمين مثلا ( إيقاف سوّاق الحافلات العمل فجئيا). دون حسيب أو رقيب أو رادع.
ضاعت الإدراة بين ولاء حزبي فاضح و ميل نقابي هالك. و أصبح فتح أبواب المكاتب خاضعا لنزوات موظفين وعملة، فلا أحد له القدرة على المحاسبة أو الرّدع، و أصبح مشهد الأوساخ و تعطّل الأشغال سمة بارزة لحالة الانفلات الإداري. ورغم تلك الصّنائع المكلكلة فإن شرفاء حرصوا على المشي على الأشواك لقاء إنجازأعمال المواطنين.
ليس أمام وزير مكلّف فهم أسرار عطالة الإدارة إلاّ أمرين: إمّا التوافق مع المعطّلين و تعيينهم في مراكز القرار كي يخسروا كل رصيد نقابي أو حزبي. و يقف المواطن على ثرثرتهم و فساد أرائهم.
و امّا الأمر الثاني فهو تحييد الإدارة مثلما ينصّ عليه الدّستور، وهو أمر صعب في ظل تغلغل الأيديولوجي مع السياسي مع الانتهازي و الوصولي.
يبدو أنّ الوزير المكلّف اختار أيسر السّبل، وهو توزير المكبّلين للإدراة، و لكنه زادهم الفئة المغضوب عليها من زمن الدكتاتورية، فأصبحت خلطة لا يمكن أن تؤدّي إلا إلى التوقّف الحتمي. فهذا الخليط سيكون حافزه هو البقاء و كسب الغنائم دون العمل على توفير ضروريات الحياد التام في تسيير الإدارة.