جاءك البغل يا أدباش الأثرياء…

Photo

شاهد أخاديد محفورة في جراب الوجه، امتلأ الخدّان بحكايات الأحمال في "بورط" رادس. كان فتى قويّا، تهابه كلاب الحي التي كانت تطارد فراشه من خيش الزبالة. لم يكن يطردها بعد أن يستفيق من نومه ليتوجّه إلى عمله. الأحمال تنتظر بغلا قويا من البشر بعد أن عجزت الآلة عن الدّخول إلى أصغر نقطة في الحاوية.

ترافقه أصابعه في سيره، فهو لا يتركها حتى و إن كانت عارية من حذاء يليق بهما، لم يكن يهتم بالتفاصيل ماذا يعني أن تستند الساقان إلى قدمين أوسعهما الزفت بشتى الخدوش و النتوء حتى صارا " محلّفين". كان يفتخر بركبتين عظيمتين اكتنز فيهما لحم خنزير عندما كان صغيرا، فأمّه ما كان لها أن تشتري لحم الخروف الحلال و الخنتوش يدور حولها، فكانت تذبحه و تطلب الغفران من الله الرّحيم.

" هل جاء سي محمّد؟. سؤال يردّده كلّ صباح، فإذا وجده فإنه سيعود بدراهم معدودة تجعل الرّغيف يصل أحشاءه الطاوية. فهو الوحيد الّذي يسمح له بالعمل و نقل الأمتعة من الحاوية.

يبدأ العمل مشمّرا بقولته المشهورة: جاءك البغل يا أدباش الأثرياء. يتلقّفها كالأفعى التّي تغرز أسنانها في فريستها و يخرج سمّ عضلاته المفتولة و يرفعها كما يرفع الذّئب الحمل الوديع.

يأخذ المال، و يسير باتجاه مقهى مختبئ في زاوية عمارة مهجورة، هناك سيشتري خمرا و بعض خبز يحتفظ بهما لأيّام الشّدة، فالخمر ليسرّع دوران الدّم في جسده و الخبز لتدفئة معدة خاوية. هكذا كانت تقول له أمّه. صحيح نحن مسلمين لا نشرب الخمر؛ ولكن الأغنياء ما تركوا لنا الحلال لنشربه و نأكله.

"وين كنت متخبّي يا جحش" بهذه العبارة يكلّمه صاحب المقهى مداعبا له. "كنت أبحث عن عمل ولم أجده، الشّتاء بارد و أصحاب المال يدفئون مالهم بخزنه في بيوتهم السّاخنة." يعرف أنّ صاحب المقهى هو نفسه من الخزناجية، و يكنزون مالهم في حفر داخل بيوتهم المقفلة.

سار في الشّارع الواسع، و خبّأ القوارير و القليل من الخبز في خزائن معطف وصلت إليه كل سهام الفقر، فجعلته مرقّعا من كلّ جانب. لم يكن يهتم بنظرات المارّة وهي تحدّق في جسد قوي البينة رثّ الثياب. فأبناء الشّعب ربّاهم صاحب نعمة حكمهم على احتقار كلّ من يضع على جسده أسمالا بالية، حتى و إن كان هو سبب فقره و سوء حاله.

استقرّ في زاوية نهج مظلم، وبدأ يبكي، نعم يبكي مثل طفل صغير، صاح بأعلى صوته: أمّي أريد اللحاق بك. لماذا جئت بي إلى هذا القوم المشؤوم؟ أمّي لم تكن الحياة هدية لي بل هي شؤم و شقاء. تعالى نحيبه، و ازداد غضبه. و لم يقو إلا على الصّراخ كوحش كاسر عجز عن نيل فريسة منذ أيّام.

سمع من بعيد وشوشة، و انطلق بعدها سيل من حجارة يلقيها أطفال صغار، وهم ينادون: ارحل أيّها المجنون؟ ارحل ارحل. لم يستطع إلا الفرار من ضربات الحجارة القوية. و أسرع الخطى يريد اللحاق بمخبئه فهو في أقصى المدينة. فالحاكم يترك الكلاب و المشرّدين خارج البلد على عادة سلاطين المماليك.

وفي طريقه دخل حانة صغيرة، وطلب من "القرصون" أن يناوله قليلا من الماء، فالعطش جفّف حركته. جاءه بإناء صغير، وقال له: "كــبّـه في جلغتك و ارحل". مازحه شاكرا فضله.

و هنا رأيته، فطلبت منه أن يجالسني، فلم يقبل القرصون ذلك فالزبائن تعاف مناظر "البزقليف". نهرته و قلت له: هذا ليس جربوعا، بل هو إنسان مثلك، و سيّدك هو من جعله آية في الشّقاء" جالسته، و حكى لي حكاية الشّقاء.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات